الأرشيف

شارع مجرى العيون

شارع مجرى العيون

 

شارع مجرى العيون بالقاهرة يبدأ من الشاطئ الشرقي لنهر النيل بميدان فم الخليج وينتهى تحت صخور جبل المقطم بامتداد شارع صلاح سالم، وبداية تأسيسه وتعميره
تعود إلى أفكار وجهود مهندسي وعمال حكومة السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، وهو في الأصل لم يكن شارعا لسكن الناس ومرورهم ولكنه كان مكانا خاليا
يكاد يتوسط المسافة الفاصلة بين مصر القديمة حيث فسطاط عمرو بن العاص والقاهرة الفاعلمية حيت قصور الفاطميين.

 

 

وقد رأي مهندسو السلطان الناصر أنه صالح لتنفيذ مشروع مائي كبير ومبتكر بل ومعجز. حتى بمقاييس اليوم . لرفع ونقل الماء من منخفض نهر النيل غرب الشارع إلى
مرتفع قلعة صلاح الدين الأيوبي شمال شرق الشارع، فمنذ بناء القلعة على سفح جبل المقطم وتحويلها إلى مقر حكم مصر وهاجس مدها بالماء العذب طوال العام يقض
مضجع الملوك والسلاطين.

 

 

وفي البداية ووفقا لطبيعته العسكرية الحذرة من هجوم العدو في أية لحظة حفر صلاح الدين الأيوبي بأرض القلعة بئرا عرفت باسم «بئر يوسف» ونسبها العامة إلى
يوسف عليه السلام، ولكن ماءها لم يكن كافيا وظل سكان القلعة حائرين ومهددين بالعطش حتى أنقذهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون بمشروع مائي يعد من الأعاجيب
حتى هذه اللحظة، فقد اختار المهندسون أرض الشارع، وأنشأوا من أوله إلى آخره سورا ضخما يحمل قناة صغيرة وقناطر على هيئة عيون ولكي يحلوا مشكلة الفرق بين
انخفاض مستوى المياه في نهر النيل وارتفاع أرض القلعة جعلوا السور بقناته وقناطره مرتفئا عند فم الخليج في بداية الشارع ثم منخفضا ومرتفعا حسب ارتفاع وانخفاض
أرض الشارع التي كان يعبرها حاملا القناة والقناطر.

 

 

وعند بداية السور في فم الخليج حفروا بئرا كانت تنزل إليه الجمال والأبقار والبغال لتدير السواقي التي كانت تسحب المياه من نهر النيل إلى القناطر التي تنقل الماء إلى
القناة وفيها كان الماء يتدفق حتى يصل إلى القلعة.السلطان الناصر محمد مؤسس سور وشارع مجرى العيون هو الابن الأصغر للسلطان قلاوون وقد تولى حكم مصر عام
۱۲۹۳ وهو في السابعة من عمره، وبمجرد أن تسلطن انقلب عليه الأمير کتبغا وأقصاه عن كرسي العرش ثم نفاه وأعلن نفسه سلطانا على البلاد، غير أن الأمراء لم
يرضوا به ونحوه ونصبوا مكانه الأمير حسام الدين لاجين حاكم سوريا وكان صها للناصرالمخلوع وبعد عامين من الحكم تم اغتيال لاجين بواسطة أحد حراسه وحل محله
سيف الدين تادجي الذي تم اغتياله بواسطة مماليكه أيضا في اليوم التالى لتوليه وهنا تم استدعاء السلطان الناصر محمد من منفاه ليتولى عرش والده مرة أخرى.

 

السلطان الناصر محمد مؤسس الشارع والسور كان يعاني عدم الاتساق في تكوين الجسمي فقد كان قصير القامة ذا ساق عرجاء وسحابة على العين، غير أنه حكم مصر
واحدا وثلاثين عاما وهى فترة طويلة بمقاييس حكم المماليك حيث كان الاغتيال والنفي والاستبعاد قانونا معتمدا، وطول فترته يرجع . كما أكد العديد من المؤرخين . إلى
قوة شخصية الناصر وصلابة إرادته وإتقاد ذهنه وحذق سياساته التي جعلته واحدا من أبرز سلاطين العصور الوسطى كما جعلت مبانية ومنشآته الذروة التي وصلت فيها
العمارة المصرية الإسلامية إلى أقصى مراحل الرقي، وبخلاف سور مجرى العيون الذي يقطع أرض الشارع من أوله إلى آخره أكمل السلطان الناصر محمد الأعمال
المعمارية التي بدأها قبله السلطان بيبرس ووالده السلطان قلاوون، ولكى يأمن جانب التتار الذين كانوا يغيرون على بقايا مملكته في الشام عقد محالفة مع القبيلة الذهبية
التي كانت تتوارث حكم التتار كما تزوج إحدى بنات هذه القبيلة وهي الأميرة «طلبية» التي لا تزال مقبرتها موجودة حتى الآن بالقرب من نهاية الشارع.

 

 

 

وكان الناصر مزارعا ومربيا ورياضيا ومهتما باقتناء الخيول الأصيلة ومما يروى عنه في هذا المجال أنه كان يدفع أربعة آلاف دينار ثمنا للحصان الواحد إذا أعجبه كما
كان لديه سجل خاص بالخيول وكان متخصصا في معرفة أصل الخيول وأعمارها وأثمانها ولديه ثلاثة آلاف رأس غنم بعضها مستورد من الخارج. . ورغم أن عصر
السلطان الناصر نعم بالاستقرار في مجمله إلا أنه شهد فتنة طائفية كبيرة فبعد ما تسبب عمال الناصر في زلزلة أركان كنيسة «الزهري» أثناء حفر البركة التي حملت
اسمه وكانت تقع غرب میدان باب اللوق الحالى انطلقت نيران الفتنة ونهبت وخربت العديد من الكنائس كما أحرق العديد من المساجد ووصفها المؤرخ ستانلى لينبول
قائلا: أخذت تشتعل في مصر «القاهرة» نيران لم يعرف في البداية سبب اندلاعها وبدأت ألسنة النيران تندلع في كل مكان وكانت الرياح العاتية تساعد على انتشار اللهب
هنا وهناك وأخذ الناس يصعدون إلى المأذن ويضرعون إلى الله ظنا منهم أن المدينة بأسرها سوف تلتهمها النيران وكان هناك صراخ وعويل يصحبان تلف المنازل
والأمتعة، ولقد بذل رجال الناصر كل ما في وسعهم لإخماد النار وأحضروا جميع سقائي القاهرة كما كان أربعة وعشرون من أنبل الأمراء يعملون على رأس صفوف
الرجال الذين كانت مهمتهم تحويل المياه من الحمامات والأحواض وهدم بعض المنازل لإفساح المكان حول المباني المحترقة. وأثناء الحريق الذي شمل معظم أحياء
القاهرة بذل الناصر أقصى ما في وسعة لتهدئة الفتنة وأصدر الأوامر إلى القوات بالتوجه إلى جميع أنحاء القاهرة التفرقة الناس دون التعرض لهم وألقي القبض على
حوالي مائتي رجل من مثیری الفتنة من المسلمين والمسيحيين وقتلهم جميعا.

 

 

وسور مجرى العيون بالشارع كان ومازال أعجب المشاريع المعمارية المائية ولكنه أهمل بعد وفاة مؤسسة السلطان الناصر وكاد يمحى نهائيا من الوجود لولا أن السلطان
الغوري آخر سلاطين المماليك انتبه إلى أهميته في مد القلعة بالماء وأعاد بناءه مرة أخرى وجعله على شكل سداسي وفي داخله نفذ شكلا سداسيا آخر بوسطه عمود وأحاط
به ستة عقود ترتكز على أكتاف وخصص سلما لصعود الدواب التي كانت تدير السواقي التي ترفع الماء من النيل إلى القناة المحمولة فوق السور وهو نفس السور الذي
تمتد بقاياه بالشارع حتى الآن، وفي أيام الحملة الفرنسية سدت أغلب الفتحات التي تقع بين الأكتاف الحاملة للعقود واستخدمه الفرنسيون سورا يحتمون به ويحاصرون به
المدخل الجنوبي المدينة القاهرة.

 

 

سور مجرى العيون ببدأ امتداد الشارع من ناحية نهر النيل، وهو خصوصا في بدايته شاهق الارتفاع حتى بالمقاييس المعمارية المعاصرة، وحول بداية السور والشارع
يتسع میدان «فم الخليج، الذي شهد احتفالات وفاء نهر النيل التي بدأها وقدسها الفراعنة وظل الشعب المصرى وحكامه يحافظون عليها حتى بدايات القرن العشرين.
وبعد الميدان يصعد الشارع عبر كوبري صغير فوق مترو الأنفاق، ومن فوق هذا الكوبرى يظهر على الجانبين بنايات قديمة بعضها يعود لبدايات تعمير القاهرة الحديثة،
وتحت الكوبرى مباشرة هناك عدد من البيوت لا تختلف كثيرا عن دواوين العمد والأعيان في أرياف مصر، وبالقرب من أحدها تدير سيدة مسنة كشكا صغيرا لبيع
السجائر، وشاب يصلح سيارات وسوق صغيرة للحمام، وشباب منهمكون في إزالة القاذورات الفاصلة بين نهاية الكوبرى وسور مجری العيون.

 

سور مجرى العيون يمتد من أول الشارع لآخره، وارتفاعه الذي أحيانا يكون شاهقا وأحيانا يكون قصيرا يرتبط بمستوى أرض الشارع، كما أنه مسنود بالأكتاف، وارتفاعه
بعد الكوبرى يخفى منطقة سكنية مزدحمة بالورش. وفي هذه المنطقة تمتد على الناحية الأخرى من الشارع مدافن اللاتين المسيحية داخل سور آخر يتميز باللون الأصفر
ولكنه يبدو شديد التواضع أمام سور مجرى العيون، ثم تظهر واجهة مدرسة الصباح الإعدادية للبنات وبالقرب منها تمتد أشجار وملاعب حديقة مجرى العيون التي افتتحها
د. عبد الرحيم شحاتة محافظ القاهرة في شهر يوليو من قلب هذه المنطقة بالشارع تظهر مآذن عدد من الجوامع آخرها جامع السيدة زينب، وبعده يجاور جراج الإنقاذ
المركزي التابع لهيئة نظافة وتجميل القاهرة حديقة عامة ومعرض ومدينة السلام، وهناك شاب يبيع المشروبات المثلجة لرواد الشارع، ومحل كوشا للمصنوعات الجلدية.

 

وخلف سور مجرى العيون بهذه المنطقة من الشارع عدد كبير من المقاهي، والمركز الهندسي لخدمة السيارات، وفي هذه المنطقة أيضا تتجاور مدابغ الجلود والأبراج
الخشبية المتخصصة في تجفيف مادة «الغراء اللاصقة للأخشاب»، وفي وسطها يتسع ميدان صغير تحتل ناصيته الهيئة العامة للتأمين الصحى فرع مستشفى المقطم، وهي
داخل مبنى أنيق يتميز باللون الأخضر، وأمامه مباشرة يبدأ سور مجرى العيون الانخفاض.

 

جمعية ومؤسسة عيد الأم فرع زينهم تتوج ميدانا آخر بالشارع، وبعدها تظهر مبانی جمعية الطفولة السعيدة فوق ربوة أشبه بغابة صغيرة، وهي تواجه بالشارع منطقة شبه
عشوائية العمل الأساسي لسكانها هو دباغة الجلود.

 

النادي الاجتماعي الثقافي يجاور بالشارع جامعا يتميز بمئذنة مضلعة على غرار العمارة الإسلامية التي امتزجت أو تأثرت بأسلوب العمارة الغربية، وبالقرب منه سيدة
نوبية تبيع الزهور، وأهم ما يميز هذه المنطقة بالإضافة إلى سور مجرى العيون تلك الأبراج الخشبية المخصصة لتجفيف «الفراء» اللاصق للأخشاب، وبعدها يتسع
الشارع لجمعية المرمر الخيرية، ويعود السور لارتفاعه الأول الذي يظهر على نهر النيل، ومن هذه المنطقة تظهر قباب قلعة صلاح الدين الأيوبي، وبعد مشهدها الفضي
الشهير ينتهي الشارع بسور مركز شباب عين الصيرة.

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment