الأرشيف

شارع السد البراني

شارع السد البراني

 

 

شارع السد البراني يبدأ من حافة نهر النيل باتساع میدان فم الخليج، وينتهي بجلال مقام السيدة زينب عقيلة بني هاشم، ورغم أنه في وضعه الراهن يمتد في تواضع واضح بالنسبة لمستوى فخامة المباني أو الاتساع أو مظاهر الاناقة التقليدية بشكل عام- إلا أنه يتمتع بتاريخ طويل قلما توفر لغيره من شوارع القاهرة قديمها وحديثها، فقد كانت ازضه على مدى قرون عديدة ساحة متألقة للاحتفال بوفاء النيل.. ذلك العيد السنوي الذي كان قدومه يعني تدفق الخير ومختلف مظاهر الرفاهية لكافة فئات الشعب.. فشارع السد البراني يقع في مواجهة جزيرة الروضة التي تضم الى الآن مقياس النيل، وعلى حافة أرضه كان يمتد الخليج المصري الذي كان يبحر فيه سنويا حكام مصر في أبهى زينتهم للاحتفال بوفاء النيل، وعندما تحول مجرى نهر النيل في القرنين السادس والسابع الهجريين انتقل فم الخليج (أي نقطة تلاقي الخليج بالنيل) إلى بداية الشارع، كما أقيمت على أرضه قنطرة عرفت باسم قنطرة السد اتخذ الشارع منها اسمه، تلك القنطرة كان يوضع امامها في اليوم السابق لحفل وفاء النيل سد من التراب يزال بفعل الماء يوم الاحتفال ويجرى الماء في الخليج ليدلل على صدق ووفاء النيل. : الاحتفال بوفاء النيل اقدم الأعياد المصرية على الاطلاق انتقل لارض الشارع بعد الفتح الإسلامي لمصر وقبل أن نرصد بعض مظاهره بالشارع، سنحاول التعرف عليه في ادغال التاريخ المصري القديم فقد كان الفراعنة يقدسون النيل ويرفعونه الى مقام المعبودات مثل رع وامون وأوزوريس، كما كانوا يصفونه بعبارات مقدسة مثل (رب الرزق الوفير) و (والد الارباب) و(خالق الكائنات) وقيل في تفسير الآية الكريمة (موعدكم يوم الزينة) أن سيدنا موسى عليه السلام واجه سحرة فرعون بمعجزاته يوم وفاء النيل.

 

 

في هذه الاحتفالات الاسطورية كان الفراعنة يرمزون لنهر النيل برجل ممتلىء الجسم تظهر عليه علامات النبل والثراء وثدياه كبيران كأنهما ثديا امرأة، وفي بعض الاحيان كانوا يرسمون الماء خارجا منهما، وأمام هذا الرجل أو الدمية يمدون مائدة القرابين العامرة بالزهور والأسماك والطيور ومختلف أنواع الطيب والجواهر، وخلفها يقف الكاهن ليقدم لرمز النيل طقوس العبادة والخضوع.

 

فإذا فاض النيل وعمت مياهه الأراضي، تفرغ الجميع – بمن فيهم الفرعون والامراء- للاحتفال وكان شاطىء النيل من منف الى أسوان مرصعا بقصور فخمة كان الأمراء وأعيان الدولة ينتقلون اليها في هذه المناسبة من كل عام، ويبالغون في تهيئتها بفاخر الاثاث وتزويدها بأشهى الأطعمة، لاحتمال أن يشرفهم فرعون بالنزول فيها أثناء تجول موكبه في النيل.

 

وقيل إن فرعون والأمراء كانوا يستقلون البواخر الكبيرة في رحلة ترفيهية طويلة، وكانت سفنهم تحافظ على درجات أو تفاوت يحفظ أهمية مناصبهم، فسفينة الفرعون كانت من أربع طبقات، كل طبقة ارتفاعها عشرة أقدام، كما كانت مذهبة من الداخل والخارج، ومزينة بصور المعبودات_ في حين أن سفن الأمراء وحكام المديريات وقادة الجيش من ثلاث طبقات، كل طبقة تسعة أقدام، ولم تكن كاملة التذهيب، اما سفن الكهنة والضباط والأعيان فقد كانت من طبقتين، كل طبقة ثمانية اقدام ومزينة بألوان عديدة، وبعدها تأتي سفن أو مراكب عامة الشعب التي كانت من طبقة واحدة تحافظ على لون واحد لا يتغير ابدا.

 

هذا الموكب كان يتجول فوق المياه يوم وفاء النيل بينما الألحان الموسيقية تصدح من كل مكان، وافواج الناس تتدافع على الشاطئين ابتهاجا بوفاء النيل بشير اليسر والرخاء.

 

وفي سياق رصدهم لاحتفالات قدماء المصريين بوفاء النيل أكد الكثير من المؤرخين أنه لا يوجد سند تاريخي لاسطورة عروس النيل التي تحكى أن المصريين القدماء كانوا يلقون في نهر النيل كل عام بنتا بكرا ليتحقق الوفاء، ودللوا على ذلك بان من مظاهر الرقى الروحي للمصريين القدماء انهم آمنوا بخلود الروح، وانهم لم يعرفوا القربان البشري في طقوسهم الدينية كباقي الديانات القديمة، ولو كانت هذه الاسطورة صحيحة لظهرت في أوراق البردى أو النقوش التي حفرت بجدران المعابد وسجلوا فيها شتى صور الحياة الاجتماعية والتاريخية.

 

 

أما رواية أن أقباط مصر طلبوا من عمرو بن العاص حين فتح مصر القاء بنت بكر في النيل ليتحقق الوفاء -فقد ارجعها عدد من المؤرخين الى ان الاقباط كانوا يلقون في عيد الشهيد (۸ بشنس – ۳ مايو) تابوتا من خشب به أصبع من اصابع الموتى القدماء، وكان الناس يجتمعون من كل الجهات في هذا اليوم على شاطىء النيل ويسرفون في شرب الخمر واسباب اللهو والخلاعة، وقيل أن ما الغاها عمرو بن العاص هو القاء أصبع الشهيد هذا وليس القاء بنت بكر في النيل لان هذا لم يكن موجودا اصلا.

 

 

وقد استمر اقباط مصر في الاحتفال بوفاء النيل بهذه الطريقة وشاركهم المسلمون اللهو والمتعة حتى ألغي كل ذلك المظفر بيبرس الجاشنكير (أي الذي يتذوق الطعام قبل السلطان خوفا من أن يكون مسموما) عندما تولى الاستدارية (أي شؤون الخزانة) في دولة الناصر محمد بن قلاوون عام ۷۰۲ه، ثم أبطلت تماما في عهد صالح بن الناصر عام 557ه، وهدمت الكنيسة التي كان بها اصبع الشهيد وكان موقعها بحي شبرا، كما تم احراق الاصبع نفسه والصندوق الذي كان يحتويه وذر رمادهما، ومن يومها بطلت هذه العادة.

 

 

احتفالات وفاء النيل انتقلت الى مشارف شارع السد البراني بعد الفتح الاسلامي لمصر، غير أنها لم تبلغ ذروتها سوى في عهد الدولة الفاطمية، فقد كان ابن الرداد قاضى المقياس عند بدء موعد الفيضان يسجل علامات المقياس يوميا، ويطلع عليها الخليفة الفاطمي سرا أولا بأول، وعندما كان النيل يقارب يبدأ شارع السد البراني بنافورة ماء تقع في قلب میدان فم الخليج وبالقرب من سور مجرى العيون الذي يجري ترميمه الآن وتحيط بها واجهات مسجد الانصاري والمعهد القومى للاورام وبیت متهالك يتوج عددا من الورش الصغيرة يتوسطها مقهى، وتجاورها بأرض الميدان حديقة تحتضن كشكا صغيرا.

 

وفي نهاية المقاهي والورش الضيقة والعشوائية ينحصر الشارع في كوبری صغير يمر فوق مترو الانفاق ومحطة للاتوبيسات، وبعده تعود أرض الشارع بواجهة كنيسة مار جرجس وبطريركية الأقباط الأرثوذكس – الديوان البابوی . وبعدهما عدد من العمارات المتواضعة التي يبدو أن سكانها تألفوا تماما مع ضجيج ورش اصلاح السيارات التي تحاصرهم من كل جانب.

 

البيت الذي يحافظ على طراز عمارة القرن السابع عشر به شباك وحيد تطل منه سيدة عجوز تبدو مزهوة بانفرادها بواجهة الشارع فوق عدد من البيوت المنخفضة قبل مسجد سيدي محمد الطيبي الذي افتتحه محمود شریف محافظ القاهرة عام 1990.

 

الشارع في معظمه يفى للماضي السحيق بشرفاته العتيقة التي رغم تداعيها تبدو قادرة على احتواء حوارات العجائز ونظرات الحب التي يتبادلها شباب
الشارع.

 

بعد كوبرى الملك الصالح يبدأ الشارع في تنسم الروائع للسيدة زينب حفيدة رسول الله ، ومن أهم منشأت هذا الجزء خان سجاد (النساجون)، وفي آخره عمارتان حديثتان تجاهد كل منهما لنقل الشارع الى العصر الحديث، ولكن جهودهما تتكسر على أعتاب أرض فضاء تحتوى على اطلال بيت قديم وتحتوى . على جراج، وبالقرب منهما واجهة مسجد يتسع الشارع بعده لسوق كبيرة تمهد الاستقبال واجهة مسجد السيدة زينب الذي يتوج نهايته..

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment