شارع الصليبة

 

 

شارع الصليبة يبدأ من قلب ميدان السيدة زينب وابتهالات جيش من الدارويش يحرس جامع السيدة الشهير ، وينتهي عند اعتاب قلعة صلاح الدين الأيوبي برائحة تاريخ عامر بالمؤامرات والدسائس وشلالات الدماء وأهميته تنبع من أنه يتوسط مراكز الحكم في مصر منذ الفتح الإسلامي فموقعه كان الحد الشرقي والشمالي للفسطاط أول عاصمة اسلامية في أفريقيا وكذلك العسكر والقطائع وهو في نفس الوقت اخر امتدادات القاهرة الفاطمية من ناحية الجنوب وعلى مشارفه اكتملت استدارة او حدود القاهرة الأوروبية التي بناها الخديو اسماعيل وتوجها بقصر عابدين مقر حكم مصر بعد القلعة لذلك فإن شارع الصليبه رغم تميزه بطبيعة جغرافية قاسية ” مجرد منحدر مرهق للمشاه ” على اطرافه ملامح معمارية لمعظم العهود والدول التي مرت على مصر ابتداء بالدولة الفاطمية وانتهاء بأسرة محمد على باشا .

 

الجسر الأعظم كان يمتد على معظم ارض الشارع ويفصل بين بركتي الفيل وقارون بغرض اتقاء خطر فيضان النيل والأولى كانت من أقدم وأكبر برك مصر منذ الفتح الإسلامي فقد كانت تمتد بين الفسطاط وموقع القاهرة الفاطمية، اما بركة قارون التي يرجع اسمها الى امير مملوکی کثرت امواله فلقب بقارون فقد كان جنوب المنطقة التي تحتلها نهاية الشارع الان وبطرفها الشمالي كانت قلعة الكبش وجبل يشكر وهي المنطقة التي بنى فيها القائد العباسي صالح بن على مدينة العسكر بعد أن قتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين في مدينة أبو صير بمحافظة الفيوم كما اتخذها أحمد بن طولون مكانا لعصامة القطائع وأنشئت فيها دار عظيمة عرفت باسم الفيل واشترها كافور الإخشيدي بعد أن اغتصب حكم مصر واعاد تشييدها وسكنها عام 146 ه وقيل إنه ادخل فيها عدة مساجد ومنازل اغتصبها من أربابها غير أنه سرعان ما غادرها مذعورة وانتقل الى دار خماروية التي كانت تعرف بدار الحرم ، وقيل ان سبب خوفه يرجع الى انه تهيأ له أنها مسكونة بالجن والعفاريت .

 

على ايام الفرنسيين انقسمت بركة قارون الى بركتين الأولى عرفت باسم ابن طولون وكانت عند جامعه الذي يقع تقريبا في الثلث الأخير من الشارع والثانية عرفت باسم الملاثم البغالة.

 

جبل يشكر الذي اتميت عليه العسكر ثم القطائع ينسب الى قبيلة يشكر التي نصبت خيامها فوق أرضه عند الفتح الإسلامي لمصر ، وهو جبل كان يعتقد الناس ببركته ، فقد قيل إنها كان يشتهر بإجابة الدعاء وأن موسى عليه السلام ناجي ربه عليه بكلمات، بجوار جبل يشكر هناك في نهاية الشارع مرتفع آخر يعرف باسم الكبش وأنشأ عليه الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة بنفس الاسم كانت عبارة عن قصر ضخم وعدها المقریزی ضمن اعجب متزهات الدنيا في ذلك الوقت وبعد زوال الدولة الأيوبية نزل بها الخليفة العباسي عندما نقل الظاهر بيبرس الخلافة العباسية الى القاهرة سنة 160 ه بعد ان قوضها التتار في بغداد سنة 151 ه كما نزل فيها انه المستكفى بالله قبل أن ينقله المماليك الى القلعة وتحولت بعد ذلك الى دار ضيافة كان ينزل بها ملوك حماة وغيرهم عندما يقدمون ضيوفا على مصر، ثم هدمها الملك الناصر محمد بن قلاوون وشيدها مرة اخرى ولكن في شكل اكثر فخامة واناقة واتساعا واجرى إليها الماء والحق بها اسطبلا ورسف اليها ابنته على عريسها ابن الأمير ارجون نائب السلطة بعدما جهزها جهازا عظيما وصفه المقريزي قائلا ” عمل الصواني من ذهب وفضة ، فبلفت زنتها ما يزيد على عشرة آلاف مثقال وبالغ في الانفاق غليه حتى خرج عن الحد في الكثرة لانها كانت أولى بناته، ولما نصب جهازها بالكبش نزل من القلعة في نهاية الشارع وصعد الى الكبش وعاينه ورتبه بنفسه واهتم بالعرس اهتماما ملوكيا وألزم الأمراء بحضوره فلم يتأخر أحد منهم عن الحضور .

 

ولما انقضت أيام العرس أنعم السلطان على كل امراة من نساء الامراء بتعبيه قماش على قدرها وخلع على سائر ارباب الوظائف من الأمراء والكتاب وغيرهم.
بجوار بركة الفيل وبالتحديد في المنطقة التي تتسع فيها بداية الشارع كان هناك بستان عرف اولا باسم الطائي ثم امتلكه الامير سيف الاسلام هفتكين اخو صلاح الدين الايوبي الذي ارسله الى اليمن فتملكها وتوفي بها سنة ۵۹۳ه.

 

 

وبعده عرف البستان بخط ابن البابا نسبة الى الأمير جنكل بن محمد البابا العجلى الذي جاء إلى مصر شابة سنة ۷۰4 ه وراح يتقرب من السلطان محمد بن قلاوون حتى حصل على منصب كبير الأمراء ومن الناحية الاسرية زوج ابنته الإبراهيم ابن الناصر وحسب رواية المقريزى فإنه كان حلیم الطبع واقتصر من النساء على زوجته التي قدمت معه وهذا كان من أوجه الزهد في تلك الأيام كما كان يحب العلم واهله والاحسان بماله وجاهه فضلا عن أنه كما قال المقريزی لم يستخدم مملوكة امرد البته وكان المماليك المرد في ذلك الوقت محلا للشبهات والشذوذ الأخلاقي.

 

شارع الصليبة نظرا لقربه من القلعة مقر الحكم بنى به المماليك اسطبلا للخيول السلطانية ولكن عندما تولى السلطنة العادل كتبغا خاف على نفسه من الخروج الى الميدان الظاهري الذي كان بموقع ميدان التحرير والجزء الشمالي من جاردن سيتى وذلك بسبب علمه باستفعال مؤامرات المماليك على حياته فأخرج الخيول من اسطبل الشارع وحوله إلى ميدان الالعاب الفروسية بعيدا عن غدر المماليك.

 

 

الأمير المملوكي لاجين شيد بالشارع جامعا باسمه يجري ترميمه الآن وبجواره بنى الأمير عليم الدين سنجر وتبعهما بدأ الناس في البناء فعرفت المنطقة بخط الخازن وانشئت فيها الدور الجليلة وصارت من أجمل وأفخر المناطق فاكثر سكانها كانوا من الأمراء المماليك ومؤسسها علم الدين سنجر كان من اخلص رجال السلطان المنصور قلاوون وابنه الناصر وصار خازنا في ايام ابنه الاشرف خليل ثم ولى الدواوين ومدينة القاهرة وباشر تلك المهمة الكبيرة بعقل وسياسة وحسن خلق وقلة ظلم ولكن يبدو أن ذلك لم يعجب الناصر محمد بن قلاوون فأقاله وعين بدلا منه الامير قدادار الذي كان ظالما غشوما وعانى أهل الشارع والقاهرة من شدته وعسفه .

 

 

الناصر بن قلاوون أنشا بأرض الشارع مكان ميدان العادل كتبغا قصرة للامير بكتمر الساقی صرف عليه أموالا طائلة وفيه تزوج بكتمر اخت الناصر ، كما زوج ابنته لانوك ابن الناصر غير أن تلك المصاهرات السعيدة لم توطد الامان بينهما كما هو متوقع فعندما حج بكتمر وابنه أحمد مع خال اولاده ، وضع لهما الناصر الخال السم في طريق العودة من الحج فماتا في الحال لمجرد ان جواسيسه اوهموه بأن بكتمر وولده ” ابن اخته ” يتأمرون لخلعه . . قصر بكتمر كان من أعظم مساكن القاهرة وأجلها قدرة وأحسنها بنيانا وخصصه السلاطين المماليك للامراء المقربين ولكن سنة ۸۱۷ ه استغل حفيد بكتمر انشغال السلطان المؤيد شيخ بنته الأمير نوروز في الشام وداهم القصر وخلع رخامه النادر وشبابيكه المعشقة بالزجاج الملون وباعها مما مهد لدماره نهائيا ومكانه بنى الامير صالح بك القاسمي دارة عام ۱۷۲۱ ه، ولكن لم يهنأ بالعيش بها الا قليلا فقد داهمه خصومه وقطعوا راسه بين اركانها عام ۱۱۸۲ ه وبعده صارت عرضه لعوادى الزمن ووكرا للصوص حتى حولها محمد على باشا الى ورشة لصناعة الاسلحة والكيماويات وفي عهد عباس حلمي الأول تعطلت هذه الورشة وحل مكانها مستشفى الأمراض التناسلية الذي كان يكشف فيه اسبوعية على البغايا عندما كان يزاولن مهنة الدعارة بتصريح رسمي من الحكومة وذلك حفاظا على صحة من يغشاهن.

 

دار ارغون الكاملى بالشارع كانت بالقرب من المستشفى وهو الامير سيف الدين راغون الذي تبناه الصالح إسماعيل بن الناصر محمد وزوجه اخته لأمه، ثم عينه الناصر حسن في سلطته الاولى نائبا لحلب ولكنه كعادة معظم امراء المماليك لم يحفظ للناصر عهده وبمجرد أن انقلب عليه المماليك وعينوا بدلا منه السلطان الصالح صالح تقرب من السلطان الجديد فجعله نائبة لدمشق لذلك فإن الناصر حسن عندما عاد للسلطة مرة اخرى استدعاه لمصر واعتقله في الاسكندرية ثم نفاه الى القدس وتركه هناك حتى مات سنة ۷۵8 ه.

 

 

الحوض المرصود كان بالقرب من الشارع وكان عبارة عن حوض من الصوان الاسود داخل فجوة حفرت في باطن الأرض على مقاسه وكان مخصصة للشرب ، وعندما دخل الفرنسيون مصر اقتلعوه من باطن الأرض وأرسلوه الى باريس ولكن في عرض البحر استولى عليه الجيش الانجليزي وهو الان بمتحف لندن ، وبهذا الخلع القاسي انهى الفرنسيون اسطورته فقد ذكر الجبرتي أن أهالى القاهرة كانوا يظنون أنه أقيم على كنز كبير ودلل على ذلك بأنه في عام ۱۲۰۱ طلب حسن باشا القبطان الذي أوفده السلطان العثماني لاخماد فتن المماليك موضعا ليعمله حنفية خاصة به فأشار عليه مساعدوه بالحوض المرصود فأمر بإحضاره ولكن بمجرد أن بدأ العمال في التنفيذ تجمهر الرجال والنساء حولهم ليروا الكنز الذي طالما اشتاقوا اليه وكذلك العجائب والأساطير التي طالما روجوها حول الحوض فما كان من الباشا الا ان امر بتركه مكانه غير ان ذلك لم يزد اهالی الشارع والمنطقة الا ايمانا بأساطير وكنوز الحوض المرصود .

 

 

الصليبية اسم عام يطلق على ممر طويل يتكون من أربعة شوارع متصلة الأول من ناحية القلعة يعرف باسم شيخو أو شيخون وهو يبدأ من ميدان صلاح الدين ويتقاطع من شارع الركيبه وشارع السيوفية عند سبيل ام عباس قبل أن ينتهي امام الجزء الثاني وهو يحمل اسم الصليبة وهو عبارة عن مطلع شاق ومرهق للمشاه ثم يبدا الجزء الثالث وهو شارع الخضيري الذي ينتهي عند خانقاه ” خلوة الصوفية ” التي انشأها الأمير علم الدين سنجر ليبدا الجزء الاخير وهو شارع عبد الحميد اللبان «هراسينا سابقا، الذي ينتهي تحت أقدام دراويشن السيدة زینب .

 

 

الصليبية يزخر بالآثار التي تنتمي إلى معظم العهود التي مرت على مصر منذ القرن الثاني للفتح الإسلامي فداخله جامع أحمد ابن طولون الأثر الوحيد الباقي من مدينة القطائع العاصمة الإسلامية الثالثة لمصر ، وارضه متوجه بشرفات قلعة صلاح الدين الحصينة ووسطه تقريبا السبيل الفخم الذي بنته ام عباس باشا في عهد الاسرة العلوية ، أما المنشآت المملوكية فهي كثيرة جدا بالشارع فقد كان في عهدهم أهم شوارع القاهرة وأكثرها ازدحاما وكان مخصصا لتفيذ الأحكام وتجريس المجرمين والأمراء المتآمرين ومن ابرز المنشآت المملوكية الباقية فيه في الشارع حتى الان مسجد وخاتفاه الأمير شيخو الذي كان مملوكا جركسيا واحتل مكانة عالية في عهد السلطان الناصر قلاوون كما كان من كبار رجال الحكم في عهد السلطان حسن وكعادة أمراء المماليك لقي مصرعه على أيدي أحد خصومه على مشارف الشارع أثناء انعقاد احد الاجتماعات السلطانية بالقلعة وترك مجموعته الأثرية التي اقتطعت جزءا مهما من أرض الشارع وكرست مكانته التاريخية التي امتدت عبر اثنی عشر قرنا …

 

 

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment