شارع الهلبواي

 

 

أهمية شارع الهلباوي لا تتبع كما عادة الشوارع من اتساعه او نخامة عمارته الحالية او عراقة الآثار الباقية او المندثرة في ارضه، فهو ممرميق يفتقر الى درر العمارة القديمة ولا يغرى مطلقا بالتنزه فيه، ولكن تنبع من انه يتوسط الساحة التي كانت ومازالت الأصل الشعبي لجزيرة المنيل التي كانت المكان المشتهى للملولك والأمراء منذ نشأتها وخصوصا بعد الفتح الإسلامي لمصر ، فقد هرب اليها المقوقس اخر حكام مصر من قبل العرش الروماني عندما ضيق عمرو بن العاص الخناق عليه، وداخلها وقع بنود المعاهدة التي ضمنت امنه وحاشيته، وعلى ارضها قاوم احمد ابن طولون هجير ودسائس رجال البلاط العباسي بتنسم عطور جواريه ومشوقاته، وعلى جنباتها أرسى الأيوبيون دعائم سلطانهم وتهيا امراء المماليك لاعتلاء عرش مصر والشام .

 

 

اما على المستوى الأحدث فإن أهمية الشارع تنبع من أنه يجسد او يذكر بالوجه الاخر والخفي بل والمخجل لسياسي ومثقفى القاهرة في بواكير القرن العشرين..وجه اولئك الذين تعاونوا مع الاستعمار واعتبروه سواء بقصد أو بغير قصد شرطا لتحضر مصر ورقيها ، فالمحامي ابراهيم الهلباوی حامل اسم الشارع والحي المحيط به يعرف على المستوى الشعبي باسم جلاد دنشواى، فقد كان ضمن عصبة رجال القضاء الذين لم يتورعوا عن الدفاع عن الانجليز ضد ضحاياهم من فلاحى قرية دنشواى التابعة لمحافظة المنوفية احدى قرى دلتا مصر في عام 1906.

 

 

الشارع كان جزءا من قرية صغيرة كانت الأصل الشعبي لجزيرة المنيل ،واطلاق اسم الهلباوي عليه يرجع لانه كان اشهر سكانه على الاطلاق ،وظلت ابنته تعيش في قصره الذي كان يتوج الشارع حتى اربعينات القرن الماضي.

 

ابراهيم الهلباوی تعود أصوله الى اسرة مغربية نزحت الى مصر في حوالي القرن التاسع عشر، والتحق بالأزهر الشريف وتتلمذ على يد جمال الدين الافغاني ، غير انه لم يواصل دروسه الازهرية واشتغل في شبابه بتجارة القطن وبفضلها صار من أثرياء القوم وشيد قصرا بقرية العطف التابعة لاحدی محافظات دلتا مصر.
الهلباوي كان يتمتع منذ طفولته بمواهب الخطابة والبلاغة ،لذلك لم يصبر طويلا على التفرغ لتجارة القطن ،واشتغل بمهنة المحاماة مستغلا انها لم تكن تشترط دراسة الحقوق في تلك الفترة، بل وكانت لا تشترط سوى نوع من اللباقة . وذرابة اللسان ولا مانع من القدرة على إلباس الحق بالباطل لدرجة ان الزعيم سعد زغلول كان يخجل من اعلان عمله بهذه المهنة.

 

الهلباوي كما هو متوقع من خطيب مفوه مثله نجح في المحاماة حتى صار اشهر المشتغلين بها في مصر لدرجة أن الفلاح في ادغال قرى مصر كان يقول عن غريمه والله لافتله وأجيب الهلباوي ” ضامنا بذلك البراءة ممايدلل على أن الهلباوي بلغ شأوا كبيرا في المقدرة على الباس الحق بالباطل، ولكن ربيب الثورة العرابية وتلميذ الافغاني وزميل سعد زغلول ضحى بهذا النجاح في ساعة نحس فلما تواجه لبيبا مثله وحفر قبره بيديه وانعزل فيه وهو على قيد الحياة.

 

 

الهلباوي غرته لساحنه وطعن الشعب المصري في صميم ما يعتز به ويقاتل من اجل الخلاص منه، فقد وقف على شفا مقصلة دنشوای پدافع بمهارة عن الضباط الانجليز ضد ضحاياهم من فلاحی دنشوای..حادثة دنشوای كما هو معروف تتلخص في أن بعض ضباط الاحتلال الانجليزي كان يصطاد الحمام بالبنادق في قرية دنشوای فاخترق رصاصهم قلب احدى الفلاحات فأردوها . فتيلة ، فاندفع الأهالي فأصابوا أحدهم وفر آخر فمات في ضربة شمس، والهلباوي اقام دفاعه القاتل له أولا على ان الانجليز كانوا يصطادون حماما بريا لا يملكه الفلاحون ولا بطونه وبالتالي فليس من حقهم “قانونا” أن يطاردوا ضابطا “ضيفا” ، وكان هذا أهم حيثيات الحكم الذي أصدره بطرس باشا غالي رئيس المحكمة وقضى باعدام عدد من الفلاحين وجلد عدد اخر.

 

 

الهلباوي عاد الى القاهرة مزهوا بهذا الحكم وتلقى تهانى اعوان الانجليز كمحام بارع وحاول مواصلة طموحاته السياسية والخطابية بالانضمام الى حزب الاحرار الدستوريين ، الى ان داهمته لحظة الانتقام القاسية في تأبين الزعيم محمد فريد ، فبينما يستعرض مهاراته الخطابية في سرادق التابين أطلق شباب الحزب الوطني حمامات في السرادق وراحوا يهتفون “يسقط جلاد دنشوای”.

 

 

التأبين المعد لذكرى محمد فريد كان بما حدث فيه على اثر هذه الصيحة اليق بالهلباوي فقد قوطع خطابه البليغ ربما لاول مرة وخرج مكسورا كمن يمشي في جنازته السياسية والمهنية والتزم بيته بالشارع حتى مات ، ولم يعد يذكره احد من الشعب المصرى سوى كمساري الباص” حينما يمر امام الشارع وينادي على الركاب” محطة الهلباوي..محطة الهلباوي”.

 

شارع الهلباوى يبدا الآن بقصر مهمل تفترش واجهته سيدة عجوز تعيش على صنع الشاي لبعض البسطاء من سكان الشارع ورواده، ويذكر بماض قصر ملکی منيف كان يقع بالقرب من الشارع وهو قصر الهودج الذي بناه الخليفة الأمر بأحكام الله الفاطمى للفتاة البدوية التي اختطفها من وسط قبيلتها في صعيد مصر، ورغم فخامة ورغد هذا القصر ظلت وفية لحب ابن عمها ،وبذلك سطرت اسطورة تناقلها أهالى القاهرة والشارع زمنا طويلا وقال فيها الشاعر الطيئى طراد قصيدة كاد يقتله الأمر بسببها ويقول مطلعها: “ألا أبلغوا الأمر المصطفى مقال طراد ونعم المقال قطعت الأليفين من ألفة بها سمر الحى بين الرجال كذا كان أباؤك الاقدمين سألت فقل لي جواب السؤال” .

 

 

الشارع كما سلف ممر ضيق يتوسط حيا يحمل ايضا اسم الهلباوى، وعمارته بشكل عام يعوزها دقة وجمال العمارة القديمة، ويلاصق حيا يحمل اسم الغمراوى، وهي اسرة من كبار ملاك الأراضي في ريف مصر وقدمت الى القاهرة من محافظة بني سويف، وانتقلت الى القاهره وكان لاحد افرادها فيلا بالمنطقة مكانها الان العمارة رقم ۸۵ التي يحتل واجهتها مطعم فولی جود للساند وتشات.

 

 

الشارع والحي يمتد الى مشارف نهر النيل وأبرز منشأته جراج المنيل وسكانه في الغالب من صغار الموظفين. وبالقرب من ارض الشارع كانت تتطاول شجرة المندورة وهي شجرة نبق كان أهالي الحي والقاهرة يعتقدون في بركتها وينسبون اليها كرامات اسطورية في شفاء الكثير من الأمراض وينذرون لها النذور ومن هنا عرفت باسم المنذورة وظلت بالمنطقة فترة طويلة وحين اقتلعتها السلطات في ثلاثينات القرن الماضى زرعوا شجرة اخرى واطلقوا عليها نفس الاسم.

 

 

الشارع ينتهي بعدد من العمارات الفقيرة وهو في وضعه الراهن يشبه الى حد كبير مصير صاحبه فبعد أن كان والحي من ارقى مناطق المنيل ينزوى الان في ركن ضيق كأي محام استغل مواهبه في النيل من أبناء وطنه.

 

 

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment