الاتجاه شمالا .. مصر الجديدة





الاتجاه شمالا: كيف ولدت مصر الجديدة من رحم التاريخ ورؤية المستقبل؟


الاتجاه شمالا: كيف ولدت مصر الجديدة من رحم التاريخ ورؤية المستقبل؟

لم تكن ولادة حي مصر الجديدة مجرد مشروع عمراني عشوائي، بل كانت فصلًا جديدًا ومنطقيًا في قصة طويلة من التوسع العمراني للعاصمة المصرية. على مر العصور، كان هناك دائمًا اتجاه طبيعي للقاهرة للنمو شمالًا. منذ أن أسس عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، جاءت بعدها شمالًا مدينة العسكر، ثم شمالها مدينة القطائع التي بناها أحمد بن طولون، ثم شمالها القاهرة الفاطمية التي أسسها جوهر الصقلي. هذا الزحف المستمر شمالًا لم يتوقف، ففي العصر الحديث، اتجه الفكر التعميري في عهد الوالي عباس حلمي الأول إلى الشمال أيضًا، ليخطط الحي الجديد الذي حمل اسمه: حي العباسية. وعندما ضاقت القاهرة مجددًا بسكانها في مطلع القرن العشرين، كان من الحتمي أن يكون الحل في “الاتجاه شمالًا” مرة أخرى، ولكن هذه المرة على يد مستثمر بلجيكي طموح، هو البارون إدوارد إمبان، وشريكه الأرمني المصري، بوغوص نوبار باشا، ليقيما ضاحية هليوبوليس، أو مصر الجديدة، التي أصبحت الامتداد الأكثر طموحًا وعبقرية لهذا التاريخ الطويل من النمو.


الفكرة والموقع: حلم على هضبة عين شمس

كانت الفكرة الأساسية التي قامت عليها مصر الجديدة هي إنشاء مشروع سكني كبير ومتكامل على هضبة صحراوية تقع في شمال شرق القاهرة، غير بعيدة عن حي العباسية وواحة عين شمس التاريخية. هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا على الإطلاق، بل كان قائمًا على دراسة دقيقة لمزايا الموقع الفريدة:

  • الارتفاع والجفاف: ترتفع المنطقة عن مستوى القاهرة ووادي النيل، مما يمنحها ميزة مناخية هامة، وهي الهواء الجاف النقي، بعيدًا عن رطوبة نهر النيل. كانت هذه نقطة جذب صحية هائلة في وقت كانت الأمراض المرتبطة بالرطوبة منتشرة.
  • البعد التاريخي: تقع المنطقة على مقربة من موقع مدينة “أون” الفرعونية القديمة، التي كانت مركز عبادة الشمس في مصر القديمة، وأطلق عليها اليونانيون اسم “هليوبوليس” (مدينة الشمس). هذا العمق التاريخي منح المشروع اسمًا ذا بريق وجاذبية، وربط الحاضر الحديث بماضٍ عريق.

الرجلان وراء الحلم: إمبان ونوبار

واتت هذه الفكرة العبقرية عقل رجل الأعمال البلجيكي، البارون إدوارد إمبان، الذي لم يكن غريبًا عن السوق المصرية. فقد سبق له أن حصل في ديسمبر عام 1894 على امتياز مد أول شبكة لخطوط الترام الكهربائية في القاهرة، وهو المشروع الذي نجح نجاحًا باهرًا وأكسبه خبرة واسعة في التعامل مع الحكومة المصرية وجاذبية الاستثمار في البلاد. وبفضل هذه الخبرة، تقدم إمبان إلى الحكومة المصرية بطلب للحصول على امتياز جديد لإنشاء ضاحية سكنية متكاملة في منطقة واحة عين شمس، التي كانت تبعد حوالي 10 كيلومترات عن قلب القاهرة الصاخب.

لم يكن إمبان وحده في هذا الحلم، بل شاركه في تحقيقه رجل الدولة الأرمني المصري البارز، بوغوص نوبار باشا، ابن نوبار باشا، أول رئيس لوزراء مصر في العصر الحديث. كانت شراكة نوبار حاسمة، حيث وفرت للمشروع الغطاء السياسي والاجتماعي اللازم، والخبرة الإدارية العميقة بالشأن المصري، مما جعل المشروع شراكة ناجحة بين رأس المال الأوروبي والخبرة الوطنية.

البارون إدوارد إمبان مؤسس مصر الجديدة

الصفقة التاريخية: ميلاد شركة واحات هليوبوليس

تحرك الرجلان بسرعة لتنفيذ مشروعهما، حتى قبل الحصول على الموافقات الرسمية النهائية. فمنذ 20 مايو 1905، بدأ إمبان ونوبار في شراء مساحات واسعة من الأراضي في تلك المنطقة. وسرعان ما توجت جهودهما بالنجاح، حيث صدر مرسوم تأسيس “شركة واحات هليوبوليس” (شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير فيما بعد) في يوم 14 فبراير 1906. وبموجب هذا المرسوم، باعت الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الأشغال العمومية، للشركة الجديدة مساحة شاسعة تبلغ 5902 فدان (الفدان يعادل 4200 متر مربع) بسعر زهيد للغاية بلغ جنيهًا مصريًا واحدًا فقط للفدان. كان هذا السعر المنخفض جزءًا من تشجيع الحكومة للاستثمار في تعمير الصحراء، ولكنه جاء مصحوبًا بشروط صارمة لضمان جدية المشروع، حيث نص العقد على ألا تزيد المساحة المخصصة للمباني والشوارع والحدائق على سدس إجمالي المساحة، وهو الشرط الذي تم تعديله لاحقًا في عام 1907 ليزيد الحصة إلى الربع، بعد أن أثبتت الشركة جديتها.

من بيع الأراضي إلى بناء مدينة: تحدي الأزمة الاقتصادية

لم يكن المشروع الأولي للشركة يتضمن بناء مدينة سكنية بالكامل، بل كان يقوم على فكرة تقسيم الأراضي المجهزة بالبنية التحتية ثم بيعها للأفراد والشركات ليبنوا عليها بأنفسهم. وبالفعل، بدأت الشركة في تنفيذ أعمال بنية تحتية ضخمة، حيث قامت بتخطيط 30 كيلومترًا من الشوارع، وإقامة مشروع للصرف الصحي بطول 10 كيلومترات، ومد خطوط للمياه العذبة بطول 50 كيلومترًا. لكن المشروع سرعان ما واجه عقبة كبرى، حيث عانى من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي شهدتها مصر في عام 1907. أدت الأزمة إلى ركود حاد في سوق العقارات، وعزف الناس عن شراء الأراضي في منطقة صحراوية نائية.

هنا، أظهرت إدارة الشركة مرونة وعبقرية في التعامل مع الأزمة. فبدلًا من الاستسلام وإعلان فشل المشروع، قررت الشركة تغيير استراتيجيتها بالكامل. اضطرت إلى التحول من مجرد مطور أراضٍ إلى شركة بناء متكاملة، حيث بدأت في بناء المنازل والعمارات بنفسها، بهدف تأجيرها بأسعار منخفضة، لتشجيع الناس على الانتقال وتوفير سيولة مالية للشركة. هذه الخطوة، التي ولدت من رحم الأزمة، كانت هي السبب المباشر في تسريع وتيرة تعمير الحي وضمان نجاحه على المدى الطويل.

شروط الحكومة: ضمانات لإنشاء مدينة متكاملة

مع نجاح المرحلة الأولى وتزايد الإقبال على السكن في الحي الجديد، طلبت الشركة من الحكومة زيادة مساحة الامتياز. وافقت الحكومة على طلباتها، ففي عام 1910، زادت المساحة الممنوحة للشركة بمقدار 1200 فدان إضافي، لتصل المساحة الإجمالية إلى ما يقرب من 12000 فدان. لكن هذه الموافقة جاءت مصحوبة بشروط أكثر صرامة، لضمان تحول المشروع إلى مدينة متكاملة وليس مجرد تجمع سكني. اشترطت الحكومة على الشركة، مقابل هذه الزيادة الهائلة في المساحة، تحقيق عدة أمور حيوية:

بناء مجتمع متكامل الخدمات

كان الشرط الأول والأهم هو أن تكون الشركة قد أثبتت جديتها بالفعل من خلال إقامة 100 منزل على الأقل على المساحة الأولى. لكن الأهم من ذلك، اشترطت الحكومة أن يتضمن البناء الجديد منظومة خدمات متكاملة تخدم جميع السكان، وتشمل:

  • مساكن متنوعة: لتلبية احتياجات مختلف الطبقات الاجتماعية.
  • دور عبادة: إقامة مساجد للمسلمين وكنائس لمختلف الطوائف المسيحية.
  • مرافق سياحية: بناء فنادق عالمية المستوى لاستقبال الزوار والسياح.
  • خدمات صحية وتعليمية: إنشاء مستشفيات وعيادات، بالإضافة إلى مدارس تخدم أبناء السكان.
  • مرافق ترفيهية ورياضية: إقامة أندية وملاعب رياضية لتوفير متنفس ترفيهي للسكان.

تطوير البنية التحتية الإقليمية

لم تقتصر شروط الحكومة على داخل الحي فقط، بل امتدت لتشمل تطوير البنية التحتية المحيطة به، مما يوضح الرؤية الشاملة للدولة في ذلك الوقت. حيث اشترطت أن تتولى الشركة على نفقتها الخاصة:

  1. إصلاح وتمهيد طريق السويس: وهو الطريق الرئيسي الذي يربط القاهرة بمدينة السويس، ويمر بالقرب من الضاحية الجديدة، وذلك لتحسين الوصول إليها وتسهيل حركة النقل في المنطقة بأكملها.
  2. تحويل خط سكة حديد السويس: اشترطت الحكومة تحويل مسار خط السكة الحديد القديم ليمر في جنوب الواحة الجديدة بدلًا من أن يخترقها، وذلك للحفاظ على هدوء وتناسق التخطيط العمراني للحي.

هذه الشروط الصارمة حولت المشروع من مجرد استثمار عقاري خاص إلى شراكة حقيقية بين القطاع الخاص والدولة، بهدف تحقيق تنمية عمرانية مستدامة ومجتمع متكامل، وهو ما كان سر نجاح وتميز حي مصر الجديدة.

“لم تكن مصر الجديدة مجرد صفقة عقارية، بل كانت عقدًا اجتماعيًا بين مستثمر حالم ودولة ذات رؤية، هدفه بناء مستقبل جديد شمال القاهرة.”


خاتمة: من صحراء إلى مدينة الشمس

في النهاية، قصة “الاتجاه شمالًا” التي بلغت ذروتها في تأسيس مصر الجديدة هي قصة طموح وإصرار ورؤية مستقبلية. هي حكاية كيف يمكن للظروف التاريخية، وشخصية المستثمر المغامر، وشروط الدولة الحكيمة، والأزمات الاقتصادية غير المتوقعة، أن تتضافر جميعها لتخلق واقعًا جديدًا. لقد نجح البارون إمبان وشريكه نوبار، بدعم وشروط من الحكومة المصرية، في تحويل هضبة صحراوية قاحلة إلى مدينة نموذجية مزدهرة، أصبحت على مدار قرن من الزمان واحدة من أرقى وأهم مناطق القاهرة، لتظل شاهدة على أن الاتجاه شمالًا كان دائمًا هو اتجاه المستقبل للعاصمة المصرية.









الأسئلة الشائعة

يشير هذا المصطلح إلى الامتداد العمراني والتطور الذي شهده حي مصر الجديدة باتجاه الشمال، وكيف شكل هذا الامتداد هوية الحي الحديثة وربطه بمناطق جديدة مثل شيراتون ومطار القاهرة.

بدأ التوسع بشكل تدريجي مع إنشاء مطار القاهرة الدولي والمناطق السكنية المحيطة به مثل منطقة شيراتون، مما حول الأراضي الصحراوية الشمالية إلى امتداد حيوي وطبيعي لمصر الجديدة.

تشمل أبرز المناطق “مساكن شيراتون” التي تعتبر من أرقى المناطق السكنية، ومنطقة مطار القاهرة، بالإضافة إلى مناطق الخدمات والمراكز التجارية التي نشأت لخدمة هذا الامتداد الجديد.

أضاف الامتداد الشمالي طابعًا أكثر حداثة وحيوية للحي، حيث امتزجت المناطق السكنية الهادئة بالمناطق التجارية والإدارية القريبة من المطار، مما خلق تكاملاً بين الأصالة والمعاصرة.

يُعتبر المحور الشمالي اليوم بوابة القاهرة الجوية، ومركزًا لوجستيًا وتجاريًا هامًا يربط العاصمة بالمطارات والطرق السريعة الرئيسية، مما يعزز من الأهمية الاستراتيجية لحي مصر الجديدة ككل.





Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment