تعتبر أسماء الشوارع والميادين ذاكرة المدن الحية وسجلها التاريخي الذي لا يُمحى، فهي ليست مجرد عناوين، بل هي حكايات محفورة على لافتات تروي قصة المكان وهوية سكانه. تختلف فلسفة التسمية من دولة لأخرى؛ ففي الدول حديثة العهد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، نجد البراجماتية تتغلب من خلال نظام الأرقام البسيط. وفي أوروبا، غالبًا ما تخلد الشوارع أسماء القادة العسكريين، أو الملوك والأباطرة، أو القديسين، كما نرى بوضوح في شوارع باريس ولندن. لكن الوضع في مصر يختلف تمامًا، فتاريخها العريق الممتد لآلاف السنين، والذي مر بعصور فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية، منحها كنزًا لا ينضب من الأسماء والشخصيات والأحداث التي تستحق التخليد. ويعد حي مصر الجديدة المثال الأبرز والأكثر ثراءً على هذه الفلسفة، فشوارعه وميادينه هي متحف مفتوح يجسد تاريخ مصر بكل طبقاته.
محتوي المقالة هي :
عندما شرع البارون إمبان وشريكه بوغوص نوبار باشا في تأسيس حي مصر الجديدة، لم تكن رؤيتهما قاصرة على بناء ضاحية سكنية، بل كان الهدف هو إنشاء مدينة عالمية على أرض مصرية. هذه الرؤية انعكست بوضوح في اختيار أسماء الشوارع، حيث تم اختيارها بعناية فائقة لتكون بمثابة بانوراما تاريخية شاملة، تربط الحاضر بالماضي، وتؤكد على عمق الهوية المصرية مع الانفتاح على العالم. شوارع مصر الجديدة ليست مجرد تجميع عشوائي للأسماء، بل هي قصيدة منسوجة بأسماء الفراعنة والخلفاء والباشوات والقادة والعلماء، وحتى المدن التي شكلت وجدان الأمة.
كان من الطبيعي أن يبدأ سجل الشرف هذا من الحضارة الفرعونية، أساس الهوية المصرية. نجد هذا واضحًا في أسماء شوارع مثل رمسيس وتحتمس، وهما من أعظم فراعنة مصر. لكن التكريم الأكبر يكمن في اسم الضاحية نفسها، هليوبوليس، وهو الاسم اليوناني لمدينة “أون” الفرعونية القديمة، والذي يعني “مدينة الشمس”، في إشارة ذكية إلى تاريخ المنطقة العريق كمركز لعبادة الشمس. كما يمتد التكريم ليشمل العصر اليوناني بأسماء مثل الإسكندر الأكبر، مؤسس الإسكندرية، وكليوباترا، آخر ملكات مصر البطلمية. ولم يغفل المخططون العصر القبطي، حيث نجد شارعًا يحمل اسم فريد بك سميكة، أحد الرموز القبطية البارزة في أوائل القرن العشرين.
تحتل الحضارة الإسلامية حيزًا كبيرًا في خريطة أسماء شوارع مصر الجديدة، مما يعكس الأهمية المحورية لهذا العصر في تشكيل وجدان مصر. تتنوع الأسماء لتشمل مختلف جوانب هذه الحضارة العظيمة.
تم تخليد أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة في شوارع رئيسية، وهم: أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب. وإلى جانبهم، نجد شوارع بأسماء خلفاء تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإسلامي مثل هارون الرشيد والخليفة المأمون، وقادة عسكريين كبار مثل صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس ومؤسس الدولة الأيوبية في مصر.
لم تقتصر التسميات على الأشخاص، بل امتدت لتشمل المدن التي كانت عواصم ومراكز إشعاع حضاري في العالم الإسلامي، في رسالة تؤكد على عمق مصر العربي والإسلامي. نجد شوارع بأسماء: بغداد، دمشق، بيروت، الخرطوم، وحتى غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس. وليس هناك ما هو أبلغ من وجود شارع الحجاز، مهد الإسلام، وشارع فلسطين، قضية الأمة المركزية، بالإضافة إلى محور العروبة الرئيسي الذي يربط قلب القاهرة بمطارها الدولي، كرمز لوحدة الأمة العربية.
أولت فلسفة التسمية في مصر الجديدة اهتمامًا كبيرًا بتخليد أسماء الشخصيات التي ساهمت في بناء مصر الحديثة في مختلف المجالات، وهو ما يمنح الحي طابعًا وطنيًا مميزًا:
إلى جانب الأسماء التاريخية، تضم مصر الجديدة أسماء ذات طابع أوروبي حديث، بدت “غريبة” للبعض، لكنها كانت جزءًا من رؤية البارون إمبان لإنشاء مدينة عالمية. ميادين مثل تريومف (Triumph – النصر) وروكسي (Roxy – نسبة لسينما روكسي الشهيرة) وشارع سفير، كانت تهدف إلى إعطاء الحي طابعًا عصريًا وأنيقًا يجذب الأجانب والطبقات الراقية في المجتمع المصري.
بعد ثورة يوليو 1952، شهدت أسماء الشوارع في مصر تغييرات واسعة لتعكس روح العصر الجديد. وفي مصر الجديدة، تم تغيير بعض الأسماء، والأهم من ذلك، تمت إضافة أسماء جديدة لشخصيات عالمية كانت صديقة لمصر، وأبرزهم جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند وأحد زعماء حركة عدم الانحياز، والذي أُطلق اسمه على شارع حيوي يقع خلف حديقة الميريلاند، تكريمًا لدوره ومكانته.
“كل شارع في مصر الجديدة هو صفحة من كتاب التاريخ، وكل ميدان هو فصل يروي حكاية. التجول في هذا الحي ليس مجرد حركة في المكان، بل هو رحلة عبر الزمان.”
لا يمكن الحديث عن فلسفة مصر الجديدة دون الحديث عن وسيلة المواصلات التي كانت السبب الرئيسي في نجاحها: الترام، أو “المترو” كما كان يطلق عليه. أدرك البارون إمبان بعبقريته أنه لن يتمكن من جذب الناس للسكن في ضاحيته الصحراوية الجديدة ما لم يوفر لهم وسيلة مواصلات سريعة ورخيصة ونظيفة تربطهم بقلب القاهرة. وبالفعل، حصل على امتياز مد خطوط الترام الكهربائية، التي بدأت العمل فعليًا في عام 1910، لتربط الضاحية بمناطق مثل العتبة وكوبري الليمون.
تميز مترو مصر الجديدة بانتظامه الشديد ودقته في المواعيد، وبأسعاره الزهيدة (10 مليمات للدرجة الأولى و7 مليمات للثانية)، مما شجع الآلاف على الانتقال والعيش في المدينة الجديدة. ومع توسع الضاحية، امتدت فروع المترو لتغطي كافة أرجائها، مثل خط الميرغني وخط عبد العزيز فهمي. وحتى تكتمل المنظومة، تم مد خطوط أخرى للترام الصغير، الذي عُرف شعبيًا باسم “الترام الأبيض”، ليربط بين المناطق العرضية التي لا تصلها خطوط المترو الرئيسية، ليكتمل شريان الحياة الذي جعل من حلم هليوبوليس حقيقة ملموسة.
في النهاية، تتجلى عبقرية تخطيط مصر الجديدة في أسماء شوارعها التي لم تكن مجرد علامات، بل كانت جزءًا من مشروع ثقافي وحضاري متكامل. هي فسيفساء رائعة تروي قصة أمة، وتخلد ذكرى من بنوها وساهموا في رفعتها عبر العصور. التجول في شوارع مصر الجديدة اليوم هو حوار صامت مع التاريخ، وتأكيد على أن الهوية الحقيقية للمدن لا تكمن فقط في مبانيها، بل في الحكايات التي ترويها شوارعها.
لزيارة صفحة الفيس الخاصة بـ (كله في الدليل).
لمتابعة قناتنا على يوتيوب قناة (كله في الدليل).
تعتمد فلسفة التسمية على رؤية البارون إمبان، حيث سُميت الشوارع بأسماء مدن وشخصيات بارزة من العالم العربي والإسلامي لتعزيز الروابط الثقافية، بالإضافة إلى أسماء مستوحاة من العائلة المالكة المصرية آنذاك.
صُممت الشوارع لتكون واسعة ومستقيمة، وتتقاطع بشكل منظم حول ميادين دائرية على الطراز الأوروبي. هذا التصميم لم يكن فقط للجمال، بل لتسهيل الحركة وتوفير مساحات خضراء، مما يعكس رؤية لإنشاء مدينة صحية ومنظمة.
من أشهر الشوارع “شارع بغداد”، “شارع دمشق”، و”شارع بيروت”، والتي سُميت بأسماء عواصم عربية لترسيخ الطابع العالمي للحي. كما يوجد شارع “الأهرام” الذي كان يؤدي مباشرة إلى منطقة الأهرامات عند إنشائه.
لا، فبالإضافة إلى الأسماء ذات الدلالات التاريخية والجغرافية، تم استخدام نظام ترقيم للشوارع في بعض المناطق، خاصة في الشوارع الفرعية، وذلك لتسهيل التنقل وتحديد العناوين بشكل منهجي ومنظم.
هذا التخطيط الفريد منح الحي طابعه الراقي والمنظم الذي لا يزال يميزه حتى اليوم. الشوارع الواسعة والأشجار على جانبيها والميادين الدائرية تساهم في خلق بيئة سكنية هادئة ومريحة وتحافظ على هوية مصر الجديدة التاريخية.