الزمالك

 

تحرص الطبقة الثرية عبر كل المراحل والعهود التي شهدتها مصر على الإقامة بمنطقة داخل مدينة القاهرة تبنى فيها دورها التي عادة ما تجمع بين الفخامة والأناقة،
وتحتكر العيش فيها بمفردها، وتكون دليلا قاطعا على تميزها بين سكان القاهرة، وعلامة بارزة على معنى الثراء ذاته، فبمجرد ذكر اسم المنطقة تتبادر إلى الذهن فورا
المظاهر الأسطورية للحياة المترعة بالشراء والرقي والفخامة والبذخ الذي يصل إلى حد السفه. السكن في تلك المنطقة يكون بمثابة الحلم الذي يصعب وربما يستحيل
تحقيقه بالنسبة لعامة سكان القاهرة وهي لا تظل ثابتة في مكان واحد، ولكن تتغير دائما حسب نوعية وثقافة وأصول الطبقة الغنية التي لا تتوقف عن ضخ دماء جديدة في
عروقها والاستغناء عن كل من أصابه الوهن أو الفقر. كانت الأزبكية هي منطقة الإقامة المفضلة لأثرياء مصر طوال سنوات حكم المماليك وبداية عصر محمد على، ورغم
أن الخديو إسماعيل حاول أن يجعلها محورا العاصمته الجديدة، ونصب تمثال والده إبراهيم باشا في قلبها، وألح على أن يجعلها قطعة من باريس فإن عمرها الافتراضي
كمقر للطبقة الغنية في مصر انتهى ليفسح المجال لمنطقة جديدة هي جاردن سيتي لتصبح مقرا للبشاوات والأثرياء من الأجانب والمصريين، وقد بالغت في إغلاق أبوابها
في وجه الفقراء لدرجة أنه كان محرما على عامة المصريين دخولها، وظلت جاردن سيتى تتمتع بمكانتها كحصن أمن وفخم لرجال الحكم والأثرياء إلى أن قامت ثورة يوليو
فزلزلتها قليلا، مما مهد لانحسار الأضواء عنها، وتحولت مكانتها كخلوة للأثرياء إلى منطقة جديدة هي منطقة الزمالك، وقد ترسخ ذلك بفعل قوانين الانفتاح في سبعينيات
القرن الماضي.

 

منطقة الزمالك على الضفة الغربية لفرع نهر النيل الأساسي ولم تغتصب فقط مكانة جاردن سيتى وتصبح المكان المفضل للأغنياء الجدد، بل قلبت حال الطبقة الثرية في
مصر وألغت العديد من شروط الانضمام إليها، فبعد أن كانت هذه الطبقة تكاد تكون قاصرة على أمراء أسرة محمد على ومن شايعهم من رجال الحكم وكذلك من تعاون معهم
من الإقطاعيين والأجانب، وبعد أن كانت شروط الانضمام إلى هذه الطبقة محكومة بمعايير ثقافية واجتماعية وسياسية وعرقية يتصاغر أمامها المعيار الاقتصادي، أصبح
الانضمام لهذه الطبقة ومنطقتها . حيث حى الزمالك . متاحا لكل من هب ودب بشرط وحيد هو امتلاك الأموال.. فقط الأموال، وليس مهما من أين أتت أو ثقافة وأصول
صاحبها، لذلك فإن الزمالك كان لها فضل إجبار الطبقة الغنية على قبول نوعيات من البشر لم تكن تحلم في السابق بمجرد مجاورتها وبالتالى فقد كان على هذه الطبقة أن
تقبل صاغرة كل الذين أصابهم الثراء فجأة بفضل قوانين الانفتاح التي قلبت حال التاريخ الاجتماعي والطبقى في مصر.

 

الزمالك الآن من أجمل وأروع مناطق القاهرة لما تحتويه من قصور وفيلات يحيط بها النيل من كل جانب وتظللها الحدائق وترطب أجواءها المساحات الخضراء، أما
سكانها فهم خليط من صفوة الفنانين والرياضيين وأثرياء الانفتاح وبقايا الأرستقراطية المصرية القديمة إلى جانب العديد من أبناء الأسر العربية والأجنبية الذين يفضلون
الإقامة فيها لأسباب متعددة أهمها مجاورة سفارات وقنصليات بلادهم المنتشرة فيها. وبالتأكيد فإن مقارنة فخامة ونظافة مباني منطقة الزمالك ورقي أو ثراء الطبقة التي
تسكن بها في الوقت الراهن بوضعها قبل مائة وخمسين عاما ستحدث مفارقة حادة، وتقدم دليلا واضحا على أن دوام الحال من المحال، وعلى أن المناطق «دول» مثل
الأيام، وأن الشوارع والحارات هي المجهر الأنسب لقراءة مدى تغير الأمم وتطورها عبر تاريخها الممتد والمتقلب. فقد كانت الزمالك حسبما يدل اسمها التركي «
الأخصاص» منطقة من بيوت الغاب أو العشش الفقيرة والمتهالكة، وكانت موطنا لأرباب الخلاعة والفجور والخارجين على القانون لدرجة أن السلطان الكامل شعبان بن
قلاوون أمر بحرقها لكى يقضى على شرور سكانها.

 

وظلت على هذه الحالة إلى أن اضطر الخديو إسماعيل لتنظيفها وإقامة واحد من أكبر قصوره فيها وهو قصر الجزيرة أو سرای الجزيرة التي أقامها على 60 فدانا على
أرض الزمالك وتكلفت ۸۹۸۹۹۱ جنيها بأسعار تلك الأيام وبناها مهندسون جاءوا خصيصا من فرنسا وإيطاليا لأن الخديو إسماعيل لم يجد بين قصور القاهرة في هذه
الفترة ما يناسب جلال وفخامة وجمال ورقة «الملكة أوجينى» امبراطورة فرنسا التي أعلنت عزمها عن زيارة مصر لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس، وبالفعل
سعدت الإمبراطورة بالإقامة في قصر الجزيرة، واعتبرت تشييده خصيصا لها نوعا من التقدير المبالغ فيه.

 

هذا القصر اشترته بعد ذلك أسرة «لطف الله» وحولته إلى فندق باسم «عمر الخيام» وهو الآن واحد من أكبر فنادق القاهرة فندق ماريوت» وبعد إنشاء هذا القصر
أصبحت الزمالك جزيرة غناء بالمعنى الحرفي للكلمة وساعد على سرعة تعميرها والإقامة فيها ربطها بعدد من الكباري المهمة في القاهرة مثل کوبری قصر النيل» عام
۱۸۹۹ وكوبرى الجلاء عام ۱۸۷۲ وكلاهما أقيما في عهد إسماعيل ومهدا لإقامة كوبري أبو العلا عام ۱۹۱۲ في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، وهذا الكوبري استغرق
العمل به أربع سنوات وتكلف 300 ألف جنيه وتم هدمه مؤخرا لتزال من الوجود إحدى التحف المعمارية في مدينة القاهرة.

 

وبفضل هذه الكباري والقصر انتعشت جزيرة الزمالك وبدأت الشرارة الأولى : التاريخها الذهبي وانطوى إلى الأبد ماضيها القديم والمخجل وأقيمت فيها العديد
من الحدائق والمتنزهات ومنها حديقة الأندلس والحرية، كما أقيم بها وبالتحديد .

 

أمام كوبرى قصر النيل المعرض الصناعى الزراعي لأول مرة عام ۱۹۳۸، كما أنشئت فيها وزارة الأوقاف أول حمام مغطى للسباحة، وبالقرب منه كانت هناك استراحة
للملك فاروق عند رأس جزيرة الزمالك الجنوبية، غير أنه فقدها بعد اندلاع ثورة يوليو ۱۹۵۲، فأصبحت مقرا لمجلس قيادة الثورة. والآن يجرى الإعداد لتحويلها إلى
متحف لقادة الثورة وبالقرب منها يطل أبرز معالم منطقة الزمالك وربما القاهرة برمتها وهو برج القاهرة.

ولكى تستأثر الزمالك ببعض شذرات التاريخ الثقافي والسياسي المصري كغيرها من مناطق الأثرياء عبر التاريخ تصب في الميدان الفاصل بين کوبری قصر النيل
وواجهة مبنى الأوبرا الجديدة في مدخل الزمالك تمثال لسعد زغلول وهو أحد تمثالى زعيم ثورة 1919 اللذين أقامهما مثال مصر الكبير محمود مختار، والتمثال الثاني في
محطة الرمل بالإسكندرية. وعند مدخل الزمالك يقع قصر السراي» الذي اشترته أسرة لطف الله وتم فرض الحراسة عليه خلال الستينيات وتلقفه الدكتور محمد عبد القادر
حاتم عندما كان وزيرا للإعلام والسياحة وحوله إلى فندق يحمل اسم «عمر الخيام» وأصبح هذا القصر هو قلب فندق «ماريوت» الحالى وقد نجح ورثة لطف الله في
الحصول على حكم باستعادته لتنشأ مشكلة قانونية عويصة ومحرجة أنهاها سعد فخري عبد النور المحامي بالحصول لأسرة لطف الله على تعويض قدره ۳۰ مليون جنيه
عن مصادرة القصر.

 

والزمالك بها عدة شوارع شهيرة منها شارع ٢٦ يوليو . فؤاد سابقا . الذي يتوسط الجزيرة ويقسمها إلى شطرين والذي يتفرع منه عدة شوارع لها تاريخ كبير نسبة إلى
أسماء أصحابها منها شارع محمد مظهر أشهر شوارع الزمالك أو حي السفارات والسفراء والأعيان ويبدأ تقريبا من تقاطع شارع ٢٦ يوليو وينتهي عند رأس جزيرة
الزمالك أى الجزء الشمالي وصاحبه هو مهندس مصری درس في مصر واختاره محمد على باشا ليكون مع أول البعثات الدراسية التي أرسلها إلى فرنسا عام ۱۸۲۹
ليدرس الهندسة البحرية بعد أن درس بمدرسة رأس التين.

 

وعاش في فرنسا عشر سنوات يدرس ويتعلم وكان عدد أعضاء هذه البعثة 44 طالبا وعند عودته إلى مصر عينه محمد على ناظرا لمدرسة المدفعية الطوبجية في طرة،
ومنحه رتبة البكباشى ثم عهد محمد على إليه ببناء فنار الإسكندرية الكبير القائم بشبه جزيرة رأس التين وأنعم عليه محمد على برتبة ميرالاي.
وشارع محمد مظهر بالزمالك من أهم الشوارع في مصر ففيه العديد من مقار السفارات في مقدمتها سفارات الجزائر والفاتيكان والعراق وقصر الأميرة سميحة كامل بنت
السلطان حسين كامل وهو القصر الذي تحول إلى مكتبة القاهرة الكبرى وقد تكلف هذا التحويل 14 مليون جنيه، وفي هذه المكتبة التي تعد من أكبر مكتبات القاهرة تم
تجميع كل ما كتب عن القاهرة منذ نشأتها الأولى «الفسطاط . القطائع . العسكر» ثم القاهرة الفاطمية وداخلها الآن الخرائط والوثائق المهمة. ولما عجزت إدارة المكتبة على
العثور على بعض أصول هذه الوثائق تولت تصويرها لتكون أول مكتبة متخصصة في مصر.

 

وهناك شارع حسن صبري والذي كان صاحبه وزيرا للمواصلات والتجارة والصناعة في حكومة على ماهر باشا الأولى من ۲۰ يناير 1936 إلى 9 مايو ۱۹۳۹ وفي
حكومة محمد محمود باشا الثانية من ۳۰ ديسمبر ۱۹۳۷ إلى ۲۷ إبريل ۱۹۳۸، ثم تم تعيينه وزيرا للعربية إلا أنه استقال لخلافه مع الملك فاروق. ويبدأ شارع حسن
صبري من أمام حديقة الأسماك ويمتد إلى حيث تقاطع شارع فؤاد ثم يمتد في النصف الشمالي من جزيرة الزمالك إلى أن يتصل بشارع محمد مظهر. وفي شارع حسن
صبري تحتل السفارات أيضا عددا كبيرا من أهم قصور وفيلات الزمالك وقد ازدادت أهميته على المستوى الأدبي والصحفي بسبب أن أحد مبانيه أصبح مقرا لصحيفة «
القاهرة» التي تصدرها وزارة الثقافة وكان قبل ذلك مقرا للمجلس الأعلى للثقافة. وبالقرب منه مقر اتحاد كتاب مصر، وفضلا عن ذلك يعد هذا الشارع من أهم محاور
المرور في جزيرة الزمالك كلها ويمتد إلى أن يصل إلى الشاطئ الشرقي لفرع النيل عند تقاطعه مع شارع الجزيرة الذي يحمل الآن اسم سيدة الغناء العربي «أم كلثوم»..
وهناك : أيضا شارع «شجرة الدر» الذي يقع به مسرح الزمالك وشارع الصالح أيوب ومحيي الدين زنكي والمنصور محمد.

 

والكثافة السكانية والقصور تتركز في الجزء الشمالي من جزيرة الزمالك بينما تشغل الجزء الجنوبي الحدائق والأندية مثل نوادي الجزيرة والأهلى والمعلمين وشباب
الجزيرة وحديقة الأسماك واتحاد كرة القدم بشارع الجبلاية.
ويعد شارع «أبو الفدا» على النيل من أهم شوارع الزمالك أيضا لما يحتويه من عدد ضخم من العمارات والأبراج الفخمة والتي تضم عددا كبيرا من الشقق الباهظة الثمن
وهو الشارع الرئيسي على النيل والذي يقطنه عدد ضخم من الفنانين والفنانات ومشاهير المجتمع.
والأسعار في الزمالك مختلفة إلى حد كبير عن الأسعار في أي مكان آخر فعلى الرغم من ظهور أحياء جديدة تنافس الزمالك في الإقامة والسكن نجحت في جذب الأنظار
إليها إلا أن منطقة الزمالك مازال لها رونقها الخاص الذي يفضله أبناء الطبقات الراقية، ورغم ذلك يبدو أن الزمالك على شفا التنازل عن مكانتها . كمكان مفضل للأثرياء .
لمناطق جديدة.

ويقول محمد خلف أن أسعار الأراضي في الزمالك انخفضت إلى حد كبير بعد قرارات تنظيم البناء في الزمالك وجاردن سيتي التي أصدرها محافظ القاهرة وتنص على
عدم إقامة مبان سكنية أكثر من أربعة طوابق وعدم إقامة مبان إدارية أو محال تجارية في المباني الجديدة إلا بموافقة كتابية من محافظ القاهرة. واشترط القانون الجديد إقامة
الدور الأرضي كجراج خاص بنزلاء العمارة السكنية وألا تزيد مساحة المبنى عن 60 في المائة من مساحة الأرض الفضاء التي يتم عليها البناء وهو ما جعل ثمن الأرض
في الزمالك يهبط من 14 ألف جنيه للمتر إلى 1٫5 ألف جنيه فقط للمتر وجعل الإقبال على المباني في الزمالك يضعف بشكل كبير جدا خاصة أن هناك مناطق كثيرة في
القاهرة أصبحت عوامل جذب أكثر من الزمالك وجاردن سيتى.

ويقول محيى عسران رئيس المجلس المحلي الشعبي لحي غرب القاهرة أن الزمالك . حي السفارات. من أجمل أحياء القاهرة لذلك فهو عبر تاريخه الطويل هدف للسكن
والإقامة لعدد كبير من أبناء الطبقات الراقية والأجانب ما فهو الحي الوحيد الذي تحيط به مياه النيل من ثلاثة جوانب وتنتشر فيه المساحات الخضراء الشاسعة خاصة من
أندية الجزيرة والأهلى ومركز شباب الجزيرة بالإضافة إلى كثرة الحدائق التي تحيط بالفيلات المنتشرة في الزمالك والأشجار التي يتم غرسها في شوارعه التي تتميز عن
غيرها . رغم ضيق مساحتها ۔ بأنها مشجرة ومضاءة بكشافات قوية من نوع خاص.

 

 

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment