الأرشيف

شارع منصور

 

شارع منصور

 

 

يبدأ شارع منصور باربع نخلات قصيرة تتوسطها شجرة جميلة، لتكون معأ ما يشبه حديقة صغيرة رغم الاهتزازات، حيث تقع مباشرة فوق فوهة مترو الانفاق في مستهل رحلة تحت أرض القاهرة تبدأ من الشارع. .الحديقة رغم ضيقها الواضح وارتباكها أمام ازدحام تقاطع شارع المبتديان إلا أنها تحفظ لشارع منصور جزءا ولو ضئيلا من تاريخه الملكي العامر بالحدائق النادرة والقصور والجولات المبهجة التي كانت تقوم بها أميرات مصر وحسناواتها فوق أرضه.

 

شارع منصور يوازی شارع قصر العينى، وهو شريان حيوي يربط ميدان التحرير باحياء المنيرة والسيدة زينب وفم الخليج وأطلال مدينة الفسطاط، وعلاقته بالمترو الذي يتجول في أعماق أرضه الآن علاقة قديمة، بدأت في بواكير ظهور القطارات في مصر، والى فترة قريبة كان المترو او القطار يتحرك فوق أرضه بحرية مطلقة متجها إلى حلوان على حافة القاهرة، وفي تلك الفترة كان الشارع يعرف باسم (سكة حديد حلوان).

 

قبل المترو فوق الارض او تحتها، كان شارع منصور يتميز بهدوء مخملي، فقد كان جزءا من المنطقة المفضلة لسكن الأمراء ورجال الحكم بسبب متخامتها القصور جاردن سيتى والقصر العالى، لذلك اختارها الخديو اسماعيل سكنا البناته الثلاث، وبنى لهن فيها ثلاثة قصور، الأول لابنته «فائقة، التي تزوجها مصطفى باشا بن اسماعيل باشا المفتش، ومحله الآن وزارة التربية والتعليم التي تقع على بعد خطوات من أرض الشارع، والثاني منحه لابنته جميلة التي تزوجها محرم باشا ابن کنج شاهين باشا، واثناء الحرب العالمية الأولى انتقلت اليه المدرسة السعيدية الثانوية لأن مبناها الأصلي بالجيزة حولته الحكومة البريطانية الى مستشفى للجنود الانجليز، وبموقعه الآن وزارتا الاسكان والتموين .

 

أما القصر الثالث فقد خصصه لابنته توحيدة وبردهاته الفخمة اصبح منطقيا أن يؤول الشارع على مستوى التاريخ والاسم الى الخديو اسماعيل واسرته، فمنصور الذي أطلق اسمه على الشارع في بدايته وقبل أن يتحول الى (سكة حديد حلوان)، وعاد إليه مرة اخرى بعد أن اختفى المترو تحت الأرض، هو نفسه منصور باشا الذي تزوج توحيدة ابنة الخديو اسماعيل في القصر الذي يقع عند التقاء شارع منصور بشارع الفلكى، ومحله الآن وزارة الانتاج الحربي. . بعد أن يتجاوز شارع منصور تقاطع المبتديان تطل على واجهته لافتة محل القاضي الخطاط) الذي يعرض بضاعته ولوحاته في عرض الشارع، وهي بضاعة موسمية، ومرتبطة بالتقلبات السياسية، حيث أنها تبلغ ذروة رواجها أثناء الانتخابات البرلمانية، أما أبرز زبائنها الدائمين فهم أصحاب المحلات الجديدة.

 

بجوار خطاط القاضي الذي يبدو سعيدا في الشارع بسبب انتخابات المجالس المحلية . محل (عالم الألبان) الذي يتنافس مع جاره (ألبان الفردوس) في حراسة . ومراقبة قسم شرطة المنيرة، وفي حضور محل الدواجن وايضا دار الفاروق للنشر والتوزيع التي تقع على الناحية الأخرى من الشارع.

 

مدرسة بيبي جاردن للغات تحاول بقدر الامكان والمبالغة في الألوان إثبات خصوصية مبناها في الشارع، ولكنها تبدو متواضعة جدا بسبب قربها من مبنى الخزانة العامة الذي انشىء عام ۱۹۵۲ ويشكل مع ضريح سعد زغلول ووزارة الانتاج الحربي رؤوس مثلث بزاوية منفرجة، مجمل مساحته من ارض الشارع، وتتوسطه تقريبا محطة سعد زغلول اولى المحطات التي تقع تحت الأرض من ناحية حلوان في مترو الأنفاق وهي منطقة من أكثر مناطق القاهرة ازدحاما بالناس ووسائل المواصلات خصوصا بعد انتهاء ساعات العمل الحكومي مباشرة، لانها مركز او نقطة اقلاع لعدد هائل من موظفي العديد من الوزارات والهيئات . التي تقع في المساحة الفاصلة بين شارعي منصور وقصر العيني ومنها وزارات التعليم والانتاج الحربي والاسكان والهيئة العامة لقصور الثقافة.

 

 

وابرز معالم هذا المثلث وربما شارع منصور كله خصوصا على المستوى السياسي والشعبي هو ضريح سعد زغلول الذي اقيم في هذه المنطقة باكتتاب شعبي شهير، وروعي في مبناه ان يكون على الطراز الفرعوني ليكون لكل المصريين، كما كانت ثورة ۱۹۱۹ نموذجا تاريخيا وريما نادرة لاتحاد كافة طوائف الشعب المصرى، وهو مقام على مساحة تقدر ب (۵۲۵) مترا، ومحاط باعمدة ضخمة من الجرانيت تشبه الى حد كبير أعمدة المقابر والمعابد المصرية القديمة، كما أن سقفه مصنوع من الجرانيت الفاخر. . وكما أن سعد زغلول أثار حنق الملك والانجليز في حياته، فإن ضريحه أثناء إنشائه أثار رعبهما، فقد توقعوا أن يتحول بالاضافة الى تمثالى سعد زغلول إلى مصدر لإشعال الشعور الوطني والحركة القومية، فضلا عن أن الملك نفسه أعلن غيرته من هذا الضريح، فقد راجت الشائعات في ذلك الوقت عن أن السرای الملكية اعلنت رفضها لضريح سعد زغلول وتمثاليه متحججة بأنه ليس لكل من محمد على الكبير مؤسس الأسرة الملكية، وابراهيم باشا غير تمثال واحد، كما أن الخديو إسماعيل ليس له تمثال اصلا، فكيف يكون لسعد تمثالان وضريح بهذه الفخامة؟11.

 

مصلحة الضرائب العقارية تقع في مواجهة ضريح سعد في مبنى على الطراز الإنجليزي يناسب وظيفتها تماما، وبالقرب منها المبنى القديم لمجلة الاذاعة والتليفزيون، وكان قبلها مملوكة لمؤسسة البلاغ للطباعة والنشر، ونهايته تشكل ناصية لشارع حسين حجازی.

 

وهو شارع قصير يربط بين (منصور) و (قصر العيني) واسمه يرجع إلى لاعب كرة القدم الشهير حسين حجازي الذي سافر لانجلترا قبل الحرب العالمية الأولى، وبلغت مهارته أن اختارته انجلترا ضمن فريقها القومي في مباراة ضد أسبانيا، ورأس أول فريق مصر في دورة الألعاب الأوليمبية عام ۱۹۲٤ في باريس ثم عام 1930 في مدينة الفرس البلجيكية، ولعب في أندية السكة الحديد والأهلى والمختلط (أي الزمالك واعتزل عام ۱۹۳۱.

 

 

وقبله كان الشارع يحمل اسم محمد باشا سعيد وهو أحد أبرز الساسة المصريين في بواكير القرن العشرين، فقد عين وزيرا للداخلية عام ۱۹۰۸ في وزارة بطرس غالى باشا وعندما اغتيل غالي عام ۱۹۱۰ ترأس الوزارة حتى عام ۱۹۱۲ وكان ضمن وزراء سعد زغلول، وفي عام 1919 ألف ما يعرف بوزارة السبعة التي كادت ترديه قتيلا فقد القيت عليه قنبلة في محطة جناكليس بالاسكندرية، وكان ذلك ذروة رفض الشعب لهذه الوزارة التي قبلها محمد سعيد في ظروف حساسة وربما مخجلة وبعد عدة استقالات ترجع الى عدم تصریح الإنجليز للوفد المصري بالسفر إلى باريس لتقديم مطالب مصر في مؤتمر الصلح. ثم اشترك محمد سعيد في وزارة سعد زغلول الأولى عام ۱۹۲۶، وتوفي عام ۱۹۲۸ .

 

 

تلى ناصية شارع حسين حجازي في شارع منصور ناصية شارع سعد زغلول وفيه بيته الذي كان يقيم فيه وعرف بعد ثورة ۱۹۱۹ ببيت الأمة حيث كانت تفد إليه الجموع وتنبعث منه صيحات التحرر المطالبة بحقوق البلاد، وبعد وفاة سعد زغلول اشترته الحكومة مع بيت آخر كان يملكه في بلدته بمبلغ (۱۸) ألف جنيه، شاملة ما بهما من منقولات، وهو مبلغ ضئيل حتى بالنسبة لأسعار ذلك الوقت، وربما يرجع ذلك الى انها منحته لزوجته السيدة صفية زغلول حتى وفاتها.

 

 

أما الناحية الأخرى من شارع منصور أمام الناصيتين، وحتى تقاطع شارع مجلس الشعب فيحتلها جدار احد القصور الثلاثة الاسماعيل باشا المفتش الذي كان . في عهد اسماعيل – وزيرة للمالية ومفتشأ لعموم الاقاليم، مما مكنه من جمع ثروة طائلة ظهرت ضخامتها بعدما غضب عليه والد زوجته الخديو اسماعيل، وقبض عليه في 14 نوفمبر ۱۸۷۹ وارسله منفية إلى دنقلة بالسودان، فقد ترك اسماعيل المفتش ثروة ربما بالغ الناس في تقديرها بعدما انقلب عليه الخديو إسماعيل , فقد قيل إنه ترك ثلاثين ألف فدان من اجود الاراضى، ومجوهرات قدرت بأكثر من 10000 جنيه، وأسهما واوراقا مالية بأكثر من نصف مليون جنيه وكان يعيش في ترف وصل الى أن مروحة إحدى زوجاته بلغ ثمنها (15) الف جنيه (بما يقارب ثمن منزلي سعد زغلول)، اما مظلتها فتجاوزت (۲۶) الف جنيه.. وكل ذلك وقت ان كانت الدولة المصرية واقعة في إفلاس کامل در . وفضلا عن ذلك فإن اسماعيل باشا المفتش كان له من الزوجات الشرعيات والسراري ستة وثلاثون، وكل واحدة منهن يخدمها عدد كبير من الخدم والجواری لدرجة أن عدد جواريه كان (۷۰۰) جارية. كما كان يملك عددا من القصور، أهمها هذا القصر، الذي حلت فيه بعده رئاسة الوزراء ثم وزارة المالية، ثم وزارة الخزانة، ورغم انه الان خاضع باشراف وزارة الثقافة لإعمال ترميم كامل، الا أن واجهته توحي بالأجواء الاسطورية لقصور الف ليلة وليلة.

 

 

وبالقرب من هذه المنطقة من الشارع، كان هناك مقهى له شأن كبير، هو مقهى (ابو شنب) الذي كان المكان المخصص للقاء مندوبي الصحف العربية والأجنبية ايام الملكية، وكانوا يجتمعون فيه بسبب قربه من مجلس الوزراء الذي كان مقره في قصر اسماعيل باشا المفتش، ومن الطريف أن رواد هذا المقهى من الصحفيين كانوا يشترون الأوراق المهملة في سلال المسؤولين او الموظفين في رئاسة الوزراء كل حسب طاقته، وكان سعر السلال يتحدد حسب منصب ونفوذ صاحبها، ولان اوراق السلال عادة ما تكون ممزقة فإنهم كانوا يجمعونها الى بعضها، ثم يلصقونها على ورقة بيضاء كبيرة بالنشا الذي كان يبيعه بالقرب من شارع منصور محل لصنع الطرابيش، وعندما يكتمل لصق الأوراق يقرأها الصحفي ويستنتج منها الأخبار في جريدته.. وهكذا كانت تصنع اخبار تلك الأيام.

 

 

في مواجهة قصر المفتش في شارع منصور عمود حجري يبدو أنه آخر ما تبقى من قصر قديم، وبعده مصلحة تحقيق الأدلة الجنائية التي تواجه بدورها أطلال قصر قديم لم ينجح الساتر المصنوع من شرائح البلاستيك في اخفاء قدر الاهمال بل والدمار الذي يتعرض له، وبالقرب منه قصر آخر مبني على طراز عصر النهضة الأوروبي ويعاني اسفله من طلاء لا يناسب عراقته وهو يقع على ناصية شارع الشيخ ريحان التي تفتح على مكتبة الجامعة الأميركية الكتب النادرة والمجموعات الخاصة وبالقرب منها ضرائب عابدين ومحل الجرائد الذي يقع على ناصية شارع محمد محمود , شارع منصور في مجمله خال من المساكن والمحلات التجارية، فمعظم منشآته مؤسسات رسمية، ومنطقي جدا أن تتحول نهايته من ناحية ميدان باب اللوق الى ساحة لتناول الطعام من أبرز معالمها (فسخانى الحرمين) و (سندوتش ابو علي) و (كباب حمادة) و (كشري وحلواني اشرف) وغيرها من مختلف المأكولات التي تغذي رواد الشارع للوصول الى ذروة نهايته التي تقع بين اجزاخانة الفلكي ومحل انيق للزهور ربما يكون الغرض من بضاعته اليانعة هو الترحم على التاريخ المديد لهذا الشارع وساكنيه، وقبل ذلك صنع قوس اخضر ومزهر يكمل دائرة الشارع التي بدأت باربع نخلات صغيرة منعت حديقة يانعة!!

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment