الأرشيف

جمال الدين الأفغاني

جمال الدين الأفغاني

 

مع شارع جمال الدين الأفغاني نتجاوز نهر النيل ناحية الغرب وتخفف قليلا من العبق القديم لاجواء القاهرة القديمة والأوروبية , ونتفرغ للتوغل وسط روائح وعوالم
محافظة الجيزة التي رغم انها اداريا مجرد جزء تابع لرقعة القاهرة الكبرى الا انها تنافس اصلها الفاطمي الذي اسسه القائد جوهر الصقلى وقلبها الأوروبي الذي شيده
الخديو اسماعيل في اعز ما تملك على المستوى التاريخي والتجاري والفني وكذلك في اغراء ابناء الطبقات الغنية بالسكن بها . الجيزة كانت مدينة عامرة منذ العهود
الرومانية ، ولم تكن بعيدة عن وقائع وأحداث الفتح الإسلامي لمصر وكانت في ذلك الوقت عامرة بالاسواق. وعلى الجانب الفني استطاع شارع الهرم اشهر شوارعها ان
يسحب البساط من تحت اقدم شارع عماد الدين اشهر واعرق الشوارع الفنية في القاهرة، فضلا عن احياء الجيزة الراقية هزت مكانه وارستقراطية احياء القاهرة وصارت
من ارقي مناطق القاهرة الكبرى المشتهاة للطبقات الغنية . كانت الجيزة مزدحمة بالدور والحوانيت والحانات قبل الفتح الإسلامي لمصر، وبعده كانت محل اهتمام معظم
حكام مصر، سواء من الذين سعوا الى تعميرها مثل كافور الإخشيدي الذي شيد بها جامعا كبيرا أومن الذين حرصوا على الاستفادة القصوى من خبراتها وأبرزها المنتجات
الزراعية التي كانت ارض الشارع ممولا اساسيا لها ، ومنهم السلطان المملوكي محمد بن قلاوون الذي أصدر مرسوما ملكيا بأن تذهب اليه شخصية كل أموال الضرائب
التي يتم تحصيلها من متاجر الجيزة وأراضيها.

 

أما في بواكير العصر الحديث فقد شهدت الجيزة أهم المناوشات الحاسمة التي ادت الى انتصار محمد على باشا على المماليك وفيها تعرض الباشا المحاولة اغتيال كادت
تودي بحياته، فأثاء سباق الخيل الذي نظمه محمد على بالجيزة ورمع فيه بنفسه انطلقت رصاصة من وسط الحقول قاصدة إزهاق روحه عير انها اخطاته وأردت أحد
غلمانه المقربين قتيلا فما كان من محمد على الا ان ترك مقر الحكم بالقلعة وعسكر بالجيزة ثلاثة ايام كانت كفيلة بالقضاء على مؤامرة المماليك . شارع جمال الدين
الأفغاني يأتي ضمن قائمة شوارع الجيزة الحديثة ويبدأ من حافة شارع الهرم الذي كان على مدى قرون عديدة مجرد ممر ضيق لنهب الفرعونية. ويمتد وسط عدد من
المنشأت الفنية والثقافية المهمة وهي قاعة سيد درویش ومعاهد اكاديمية الفنون ومعهد السينما واقليم القاهرة الثقافي. شارع جمال الدين الأفغاني فضلا عن تميز موقعه لنسبة
لشوارع الجيزة ومعانقته لشارع الهرم موطن السهرات والحفلات والنجوم وضمه لعدد من المنشأت الفنية والثقافية يستمد مكانته من اسم صاحبه ، فهو علم من علام النهضة
الفكرية الحديثة، وزعيم روحی شرقي ومصلح اجتماعی عصري، وداعية سياسي ثوری .جمال الدين الأفغاني تضاربت اقوال المؤرخين حول نسبته ومولده فمنهم من قال
إنه إيراني ولد في أسعد آباد ، ومنهم من قال إنه ولد في أذربيجان ومنهم من أطاح بنسبه الى قرية شيروت الهندية غير أن ارجع المصادر التاريخية تؤكد أنه ولد في إحدى
قرى ” كر” التي تقع ضمن أعمال كابول في أفغانستان وأن والده ” صفتر” كان من سادات الأفغان فهو ينتسب الى الترمذي العالم المحدث الذي يرتقي نسبه الى الامام
الحسن بن على أبي طالب. الأفغاني بدأ دراسته في افغانستان وإيران بتحصيل اللغة العربية والعلوم الشرعية والعقلية وفي شبابه التحق بخدمة الامير ” دوست خام ” حاكم
أفغانستان وعندما نشبت الحرب الأهلية بين أبناء الحاكم بعد وفاته انضم الى احدهم وهو الامير محمد اعظم وبفضله استطاع هذا الامير ارتقاء عرش افغانستان فقرب
الافغاني واتخذه كبيرة لوزرائه، غير لم تدم للافغاني طويلا فسرعان ما ناصر الانجليز الأمير «شير على» وامدوه بالمال والسلاح فاتنصر على اخيه الامير محمد أعظم
وهنا وجد الأفغاني نفسه مضطرة لمغادرة البلاد، فتوجه الى الهند واقام فيها شهرا لم يفتر خلاله عن توبيخ الهنود على تخاذلهم واستكانتهم للاستعمار الانجليزي وهنا
نستشهد بخطبته التي لام فيها الهنود قائلا ” انكم ملايين عديدة من البشر، ولو كنتم ملايين من الذباب ، لأوشك طنينكم ان يصم أذان الانجليز».

الافغاني دخل الأراضي المصرية لأول مرة عام ۱۸۹۹ وفي ذلك الوقت كانت ارض الشارع عبارة عن رقعة زراعية يجاورها عدد من القصور احدها لابن الخديو
إسماعيل وبمجرد وصول الافغاني للقاهرة التف حوله الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل وغيرهما من الطامحين الى الإصلاح والتغيير غير أن الأفغاني سرعان ما
غادر القاهرة واتجه الى اسطنبول بسبب مؤامرات بعض الذين صدمتهم حداثة تعاليمه واعتبروها خطرة على العقيدة الاسلامية .

في اسطنبول رحب العلماء واصحاب المناصب بالافغاني كما أكرم السلطان عبدالحميد وفادته مما يسر له الفرصة لمواصلة الدعوة للاصلاح الديني والسياسي وسرعان ما
علا مقامة وطار صيته في كافة أنجاء تركيا ولكنه مرة أخرى وقع في شرك مؤامرات اعدائه الذين واتتهم فرصة النيل منه وتأليب عامة الناس عليه عندما قارن بين
الفلسفة والنبوة قائلا ” الفلسفة صناعة إنسانية تكتسب بالتأمل والنظر .. أما النبوة فموهبة روحانية قدسية أودعها الله في من اصطفاهم من أهل الصفاء .

تلك المقارنة اتخذت ذريعة للطعن في الافغاني واتهامه بأنه زعم أن النبوة صناعة وأن النبي صانع ، وأنه استعمل في خطابه عبارات منافية للدين وماسة بحرمته وعندما
اشتد اللغط طلبت الحكومة التركية من جمال الدين الأفغاني مغادرة أراضيها فرحل مرة أخرى إلى مصر عام ۱۸۷۱ وفي القاهرة التف حول الافغاني الكثير من طلاب
العلم وعلى رأسهم تلميذه الإمام محمد عبده مما مهد له له بث تعاليمه التي لم يكن الناس عهد بها وقد وجد فيه الشباب المصري والعربي روحا جديدة غير مألوفة لدى شيوخ

الأزهر ومما زادهم شغفا به والتفاف حول وضوح مذهبه، ودقة وعمق نظرته للحياة ومنهجه الذي يجمع بين مجالى النظر والعمل ويشتمل على التأمل في الله والعالم
والانسان لذلك استطاع أن يفتح أعينهم على ظلم وتخلف واقعهم.

 

خطب جمال الدين الأفغاني المحرضة للشباب المصرى الطامح في الاصلاح والتجديد عجلت برحيله عن مصر ففي ذلك الوقت تم عزل الخديو اسماعيل وتحكمت فرنسا
وانجلترا في شئون مصر الداخلية وبناء على نصيحتهما اصدر الخديو الجديد توفيق قرارا بطرد الافغاني من مصبر فشد الرحال الى الهند وهناك واصل مقاومته للاحتلال
الانجليزي وعندما قامت الثورة العرابية في مصر فرضت عليه الحكومة الهندية الاقامة الجبرية في مدينة كلكتا غير ان فشل العرابيين في فك أسرة فغادر الهند الى باريس
واقام بها ثلاث سنوات حفلت بالنشاط السياسي والدعوة إلى تخليص البلاد الشرقية من الاستعمار الغربي.

الافغاني لم يتزوج طوال حياته وختم رحلاته بقبول دعوة السلطان عبدالحميد بالإقامة في تركيا التي ظل بها حتى في 9 مارس ۱۸۷۹ ودفن في قبر ظل مجهولا حتى
كشف عنه العالم الامریکی کرین واعاد تشييده عام ۱۹۲۹ وفي عام 1944 نقلت رفاته الى افغانستان .

شارع جمال الدين الأفغاني يبدأ من ناحية شارع «خاتم المرسلين، بقاعة سيد درویش التي تعد من كبريات قاعات الموسيقى بالشرق الأوسط قد افتتحها على ناصية الشارع
د. ثروت عكاشه وزير الثقافة المصري الأسبق قبل هزيمة ۱۹۹۷ بأيام قليلة وبحضور نواب الرئيس جمال عبد الناصر وامين عام الجامعة العربية ورجال السلك
الدبلوماسي العربية والاجنبية وعدد كبير من المثقفين والفنانين منهم شارلی مونش اعظم مايسترو في فرنسا في ذلك الوقت.

بائع الصحف الذي يعامل زبائنه بقسوة ظاهرة يفترش بضاعته على ناصية الشارع ويجاور سينما الأهرام التي تعاني من تصدع واضح يرشحها لان تكون اقدم منشآت
الشارع وبعدها تتجاور عدد من العمارات الحديثة لا يلفت النظر فيها الا الطلبة والطالبات المتجمهرون حول باب معهد السينما ودار الامان التي تقع قرب نهاية الشارع
وهي ليست مقبرة ولكنها سور ضخم يلف مبنيين بديعين هادئين وفي مواجهتها تبدو مئذنة مسجد نقابة المهن التمثيلية وتطل واجهة ستديو النيل ويتجاور في الشارع عدد
من المقاهي والمحلات الحديثة قبل أن يبلغ نهايته على أعتاب شارع الهرم.

 

 

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment