من بين أبرز وأفخم المباني التي تزين حي مصر الجديدة، يقف قصر الاتحادية، الذي كان يُعرف في الأصل باسم **فندق هليوبوليس بالاس**، كصرح معماري مهيب يروي فصولًا متقلبة من تاريخ مصر الحديث. لم يكن هذا المبنى مجرد فندق، بل كان حجر الزاوية في مشروع البارون إمبان لجذب النخبة العالمية والمحلية إلى ضاحيته الجديدة. بُني ليكون أفخم فندق في أفريقيا والشرق الأوسط، وتحفة معمارية تضاهي القصور الملكية، قبل أن تحوله تقلبات الزمن إلى مستشفى عسكري، ثم مقر للحكومات الاتحادية، ليستقر في النهاية كمقر رسمي لرئاسة جمهورية مصر العربية. في هذا الدليل، نستعرض الحكاية الكاملة لهذا الصرح، من فكرة تأسيسه وتصميمه الفريد، إلى الأدوار المختلفة التي لعبها على مدار أكثر من قرن.
في إطار رؤية البارون إمبان لإنشاء مدينة متكاملة، كان من الضروري وجود فندق ضخم وفخم يواكب الحركة السياحية المتنامية في مصر، ويشجع الأثرياء والأجانب على الإقامة وشراء الأراضي في الحي الجديد. انطلقت أعمال بناء **فندق هليوبوليس بالاس** في عام 1908، واستمرت على قدم وساق لمدة عامين لتنتهي في عام 1910. كان المشروع عملاقًا بكل المقاييس، وشارك في بنائه وتصميمه نخبة من المهندسين والشركات العالمية:
لم تكن عظمة **فندق هليوبوليس بالاس** قاصرة على حجمه، بل تجلت في تفاصيله الداخلية التي صُممت لتبهر النزلاء وتوفر تجربة لا مثيل لها من الفخامة والرقي. كل جزء من الفندق كان بمثابة قطعة فنية مستقلة بذاتها:
تعتبر القبة هي العلامة المعمارية الأبرز في الفندق. ترتفع هذه القبة المهيبة مسافة 55 مترًا فوق قاعة الاستقبال الرئيسية، التي تبلغ مساحتها وحدها 589 مترًا مربعًا. صمم هذه القبة المهندس الفرنسي ألكسندر مارسيل (مصمم قصر البارون)، وقام بتزيينها وزخرفتها المهندس جورج لويس كلود. كان البهو الرئيسي، الذي ترتفع فوقه القبة، محاطًا بـ 22 عمودًا ضخمًا من الرخام الإيطالي، مما يمنح المكان شعورًا بالرحابة والعظمة.
في الأول من ديسمبر عام 1910، تم افتتاح **فندق هليوبوليس بالاس** في حفل أسطوري، ليفتح أبوابه كأفخم وأكبر فندق في المنطقة. كان الفندق يضم 400 غرفة فندقية، بالإضافة إلى 55 شقة خاصة فاخرة مخصصة لكبار الزوار والأمراء. ولضمان تقديم خدمة تليق بهذا المستوى من الفخامة، تم استقدام طاقم إدارة وتشغيل عالمي:
كانت قاعات الفندق لا تقل روعة وفخامة عن قاعات القصور الملكية المصرية مثل قصر عابدين وقصر القبة. ومن أشهر هذه القاعات كانت قاعة لويس الرابع عشر وقاعة لويس الخامس عشر، اللتان كانتا مخصصتين للحفلات الكبرى والمناسبات الرسمية. ونظرًا لاتساع مساحة الفندق وامتداد أجنحته، تم إنشاء شبكة سكة حديد داخلية مصغرة (قطار صغير) لخدمة الغرف وربط المطابخ والمخازن والثلاجات المركزية بأقسام الفندق المختلفة، في سابقة لم تكن معروفة في فنادق المنطقة.
لم يدم العصر الذهبي للفندق طويلاً بالشكل الذي خُطط له. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فرضت السلطات العسكرية البريطانية سيطرتها على الفندق، نظرًا لموقعه الاستراتيجي وحجمه الهائل. تم تحويل **فندق هليوبوليس بالاس** بالكامل إلى مستشفى عسكري ضخم لاستقبال وعلاج الآلاف من جرحى قوات الحلفاء القادمين من جبهات القتال المختلفة. كانت سعته الكبيرة (400 غرفة) ومطابخه المجهزة تجعله المكان المثالي لهذا الغرض، تمامًا كما تم الاستيلاء على المدرسة السعيدية في الجيزة لنفس الهدف. بانتهاء الحرب، عاد الفندق إلى ممارسة نشاطه الفندقي، وأصبح مرة أخرى ملتقى للمشاهير وكبار الزوار من جميع أنحاء العالم. كانت تقام فيه حفلات الزفاف الأسطورية والمؤتمرات الدولية، كما اختارته كبرى شركات الطيران العالمية ليكون مقر إقامة طياريها وأطقم الضيافة، لقربه الشديد من مطار ألماظة، الذي كان المطار الرئيسي للقاهرة في ذلك الوقت. كما أن قربه من مضمار سباق الخيل في نادي هليوبوليس جعله محط أنظار علية القوم من الأجانب المقيمين في مصر وكبار الأثرياء المصريين.
“من قمة الفخامة كفندق عالمي، إلى مستشفى يضمد جراح الحرب، ثم إلى مقر للحكم، يجسد قصر الاتحادية قصة التحولات الكبرى التي مرت بها مصر على مدار قرن.”
مع مرور الوقت، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت شمس **فندق هليوبوليس بالاس** في الأفول تدريجيًا. كان السبب الرئيسي هو ظهور جيل جديد من الفنادق العصرية الفاخرة التي تم بناؤها مباشرة على ضفاف النيل في قلب القاهرة، مثل فندق سميراميس القديم، وفندق شبرد الجديد، ثم فندق النيل هيلتون، الذي أصبح وجهة السياح والمشاهير الجديدة. أدى ذلك إلى تحول أنظار السياح عن فندق هليوبوليس البعيد نسبيًا، فبدأ يعاني من الإهمال وتراجع مستواه، حتى أصبح شبه مهجور.
جاء التحول الأول في مصيره بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، حيث تم اختياره ليصبح مقرًا لبعض الإدارات الحكومية للجمهورية العربية المتحدة. وفي الستينيات، أصبح مقرًا لاتحاد الجمهوريات العربية، وحمل اسم “مبنى الحكومة الاتحادية”. لكن الإهمال عاد ليخيم على المبنى الضخم بعد انتهاء هذه التجارب الوحدوية.
أما التحول الأكبر والحاسم، فقد جاء في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. حيث تم اختيار الفندق المهجور ليصبح المقر الرسمي الجديد لرئاسة الجمهورية في مصر. كان السبب الرئيسي لهذا الاختيار هو قربه الشديد من مقر إقامة الرئيس في مصر الجديدة. على الفور، بدأت عملية تجديد وتأهيل شاملة للمبنى ليلائم مهامه الجديدة كمقر للحكم. تم طلاؤه بالكامل باللون الأصفر المميز، مما أكسبه اسمه الشعبي الشهير “القصر الأصفر”. عادت الحياة لتدب من جديد في قاعاته وغرفه، ولكن هذه المرة لاستقبال رؤساء وملوك العالم، وعقد القمم والمؤتمرات السياسية والاقتصادية الهامة، مثل مؤتمر الكوميسا عام 2001. وفي إحدى قاعاته الرئيسية، تم تكريم العالم المصري الدكتور أحمد زويل بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للكيمياء، ليعود القصر مرة أخرى تحت الأضواء، ولكن بهوية جديدة.
في النهاية، وبعد مرور أكثر من تسعين عامًا على إنشائه، أكمل **فندق هليوبوليس بالاس** رحلة تحوله المذهلة. لم يعد مجرد فندق فاخر، بل أصبح جزءًا من تاريخ مصر السياسي ورمزًا من رموز الدولة المصرية الحديثة. عادت الأضواء والكاميرات لتسلط على قاعاته، وعادت الحياة لتدب ليس فقط في القصر نفسه، بل في كل المنطقة المحيطة به، التي اكتسبت أهمية استراتيجية وأمنية فريدة، ليظل **قصر الاتحادية** شاهدًا على قرن من التحولات، يروي قصة طموح معماري لا يضاهى، وتقلبات سياسية صنعت تاريخ أمة.
لزيارة صفحة الفيس الخاصة بـ (كله في الدليل).
لمتابعة قناتنا على يوتيوب قناة (كله في الدليل).
الفندق هو “فندق قصر هليوبوليس” (Heliopolis Palace Hotel)، الذي كان أفخم فنادق عصره، وتم تحويله لاحقًا ليصبح “قصر الاتحادية”، المقر الرسمي لرئاسة الجمهورية في مصر.
تم بناء الفندق بواسطة المطور البلجيكي البارون إمبان كجزء من تأسيس حي مصر الجديدة، وافتُتح عام 1910. صممه المهندس المعماري البلجيكي إرنست جاسبر.
بعد فترة من تراجع دوره الفندقي، تم ضمه إلى الرئاسة في عهد الرئيس السادات في السبعينيات ليصبح مقراً للاتحادية، وفي عهد الرئيس مبارك في الثمانينيات أصبح المقر الرسمي للرئاسة واستقبال الوفود الأجنبية.
يتميز القصر بتصميمه الفخم الذي يجمع بين الطراز العربي الإسلامي والأوروبي الكلاسيكي، مع قبة مركزية ضخمة وقاعات واسعة كانت في الأصل أجنحة فندقية فاخرة، ويُعد تحفة معمارية فريدة.
يقع القصر في قلب حي مصر الجديدة، في موقع استراتيجي يطل على شارع العروبة وميدان روكسي، وتحيط به مساحات خضراء واسعة، وهو أحد أهم المعالم السيادية في القاهرة.