لم يكن مشروع تأسيس **حي مصر الجديدة** مجرد تحدٍ معماري وهندسي، بل كان في جوهره تحديًا تسويقيًا واجتماعيًا هائلاً. كيف يمكن إقناع الناس بترك مساكنهم في قلب القاهرة النابض بالحياة، والانتقال إلى ضاحية جديدة مقامة في وسط الصحراء؟ هذا هو السؤال الذي واجه البارون إمبان وشركته البلجيكية في مطلع القرن العشرين. لقد أدرك البارون بعبقريته أن بناء المباني الفاخرة وحده لا يكفي، بل كان لا بد من إطلاق حملة دعاية ضخمة ومدروسة، وتقديم حزمة متكاملة من الخدمات والمغريات التي تجعل من الانتقال إلى **مصر الجديدة** خيارًا لا يقاوم. في هذا المقال، نستعرض الاستراتيجية الذكية التي تم اتباعها لجذب السكان وتحويل “هليوبوليس” من مجرد حلم إلى حقيقة مأهولة بالسكان.
محتوي المقالة هي :
أطلقت شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير حملة دعائية واسعة ومبتكرة قامت على محورين رئيسيين: الترويج للمزايا الصحية والاقتصادية للسكن في الحي الجديد. لقد خاطبت الحملة العقول والجيوب في آن واحد، وقدمت حلولاً لمشاكل كانت قائمة في القاهرة المزدحمة.
كانت القاهرة في ذلك الوقت تعاني من الرطوبة العالية وتلوث الهواء النسبي. استغلت الحملة هذا الأمر ببراعة، وركزت على أن منطقة **مصر الجديدة** تقع على أرض صحراوية مرتفعة وجافة، مما يعني أن هواءها نقي ومنعش، وبيئتها صحية ومثالية للأطفال وكبار السن. تم الترويج للحي الجديد على أنه “واحة صحية” وملاذ من أمراض المدينة، وهو ما كان نقطة جذب قوية للطبقات الراقية والمثقفة التي كانت مطلعة على المفاهيم الصحية الحديثة في أوروبا.
إلى جانب الصحة، كان العامل الاقتصادي هو السلاح الأقوى في الحملة. تم تقديم **مصر الجديدة** كبديل سكني أرقى وأرخص في نفس الوقت. تم نشر إعلانات في كبرى الصحف المصرية، مثل الإعلان الشهير الذي نُشر في سبتمبر 1909، والذي جاء فيه:
“واحة عين شمس – هليوبوليس – للإيجار بجوار الجامع الجديد والترامواي الذي سينشأ قريبًا.. البيوت تقام على الطراز التركي. والشقق من 3 غرف أو 4 وفسحة.. وفرن.. والإيجار يتراوح بين 60 قرشًا و140 قرشًا.”
كانت هذه الأسعار منخفضة بشكل ملحوظ مقارنة بإيجارات المناطق الراقية في وسط البلد، مما جعل العرض مغريًا للغاية للموظفين والعائلات التي تبحث عن تحسين مستوى معيشتها دون إرهاق ميزانيتها.
أدرك البارون إمبان أن كل المزايا السابقة لن تكون كافية ما لم يتم حل مشكلة المواصلات. كيف سيصل السكان إلى أعمالهم في وسط القاهرة من هذه الضاحية البعيدة؟ كان الحل هو إنشاء شبكة مواصلات ثورية في ذلك الوقت: **الترام الكهربائي**، أو “المترو” كما أطلق عليه الناس. لم تنتظر الشركة حتى يسكن الناس ثم تنشئ المواصلات، بل قامت بالعكس، فأنشأت المواصلات أولاً لتشجع الناس على السكن.
لم يكن المترو مجرد وسيلة نقل، بل كان بمثابة “شريان الحياة” الذي ضخ السكان والنشاط في جسد المدينة الجديدة، وكان السبب المباشر في نجاح المشروع بأكمله.
توسعت الشركة في تقديم الخدمات لتثبت للسكان أن **مصر الجديدة** ليست مجرد مجموعة من المباني، بل هي مجتمع متكامل يوفر كل مقومات الحياة العصرية الراقية. كانت الشركة بمثابة “دولة داخل الدولة”، حيث تولت مسؤولية كل شيء:
لم تكتفِ الشركة بتوفير الخدمات الأساسية، بل عملت على جعل **مصر الجديدة** وجهة ترفيهية واجتماعية تجذب ليس فقط السكان، بل أيضًا زوارًا من جميع أنحاء القاهرة، مما كان بمثابة أفضل حملة إعلانية حية ومستمرة للحي الجديد. تم إنشاء مرافق كانت الأولى من نوعها في مصر في ذلك الوقت:
لجذب الطبقة الأرستقراطية وكبار الأثرياء، أقامت الشركة ميدانًا ضخمًا لسباق الخيل، والذي ظل يعمل بنشاط ويستقطب جمهورًا كبيرًا حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين. وإلى جانبه، تم تأسيس نادي هليوبوليس الرياضي، الذي صُمم ليكون ناديًا اجتماعيًا ورياضيًا راقيًا، وزُود بملاعب جولف عالمية المستوى وضع تصميمها مهندس وخبير إنجليزي متخصص، مما جعله ملتقى لنخبة المجتمع.
كانت الخطوة الأكثر عبقرية لجذب الجماهير هي إقامة أول مدينة ملاهٍ متكاملة في مصر، وهي “لونا بارك” (حديقة القمر). أقيمت هذه المدينة الترفيهية في موقع سينما روكسي الحالي، أي عند مدخل الضاحية مباشرة. كانت تضم العديد من الألعاب الحديثة والمثيرة التي لم تكن معروفة للمصريين من قبل. كان الهدف من “لونا بارك” هو جذب سكان القاهرة من مختلف الطبقات، وأيضًا سكان الأقاليم، لزيارة الحي الجديد وقضاء يوم ممتع فيه، وبالتالي يتعرفون على جماله وتخطيطه، ويفكرون بجدية في الانتقال إليه. لقد كانت “لونا بارك” إعلانًا حيًا وناجحًا للغاية للضاحية الجديدة.
لإكمال منظومة الحياة المتكاملة، حرصت الشركة على توفير أماكن العبادة والمؤسسات التعليمية منذ البداية. تم بناء كنيسة البازيليك الكاثوليكية الفخمة، والتي أصبحت المعلم الديني الأبرز في الحي، وبها دُفن البارون إمبان نفسه بناءً على وصيته بعد وفاته في بلجيكا يوم 22 يوليو 1929. وفي 4 يونيو 1911، افتتح الأمير حسين كامل باشا مسجد مصر الجديدة الكبير الذي أسسته الشركة، في احتفال مهيب حضره كبار رجال الدولة والدين. تعليميًا، تم بناء مدرسة الفرير (دي لا سال) في عام 1910، لتكون أول وأعرق مدرسة في الضاحية، ولا تزال تحتفظ في مدخلها بصورة تاريخية تُظهر مبناها وحيدًا وسط الصحراء وقت افتتاحها، وبجوارها فقط كنيسة البازيليك.
“بناء مدينة من العدم لا يعتمد على الحجر فقط، بل على خلق حلم وتوفير أسباب الحياة. لقد باعت شركة مصر الجديدة للسكان أسلوب حياة جديدًا، وليس مجرد شقق ومنازل.”
كانت نتيجة هذه الاستراتيجية الشاملة نجاحًا باهرًا فاق كل التوقعات. زاد الإقبال على السكن في **مصر الجديدة** بشكل كبير، وبدأت الأرقام تعكس قصة النجاح المذهلة لهذه المدينة التي ولدت من رحم الصحراء:
في النهاية، لم تكن قصة جذب السكان إلى **حي مصر الجديدة** مجرد حملة إعلانية، بل كانت نموذجًا متكاملاً ورائعًا في فن التعمير وبناء المجتمعات. لقد أثبت البارون إمبان وشركته أن بناء المدن الناجحة لا يقتصر على إنشاء المباني، بل يتطلب فهمًا عميقًا لاحتياجات الإنسان، وتوفير بنية تحتية متطورة، وخدمات متكاملة، وعوامل جذب ترفيهية واجتماعية. لقد كانت **مصر الجديدة** درسًا في كيفية تحويل الصحراء القاحلة إلى مدينة نموذجية، وتبقى حتى اليوم شاهدًا على رؤية عظيمة ونجاح ملهم في تاريخ مصر الحديث.
لزيارة صفحة الفيس الخاصة بـ (كله في الدليل).
لمتابعة قناتنا على يوتيوب قناة (كله في الدليل).
كانت العوامل الرئيسية هي التخطيط الحديث على الطراز الأوروبي، وتوفير حياة راقية، وكونه “واحة” هادئة بعيدة عن ازدحام القاهرة، مما وفر بيئة صحية ومنظمة.
الطراز المعماري الفريد، الشوارع الواسعة المليئة بالأشجار، والحدائق المنتشرة خلقت بيئة جمالية منظمة كانت عامل جذب كبير للطبقات الراقية والوسطى الباحثة عن جودة حياة أفضل.
قامت الشركة، بقيادة البارون إمبان، بتوفير بنية تحتية متكاملة من مياه وكهرباء وصرف صحي، بالإضافة إلى إنشاء خطوط ترام فعالة ربطت الحي بالقاهرة، مما جعل الانتقال إليه عمليًا ومغريًا.
كان السكان الأوائل مزيجًا من النخبة المصرية، كبار الموظفين، وجالية أجنبية كبيرة من الأوروبيين، الذين جذبهم الطابع العصري والحياة الراقية التي يوفرها الحي.
تستمر جاذبية مصر الجديدة اليوم بفضل مزيجها الفريد بين سحرها التاريخي والمعماري، وخدماتها العصرية، ومدارسها ونواديها العريقة، مما يخلق مجتمعًا قويًا ومترابطًا ومكانًا مرغوبًا للسكن.