لم تكن قصة نجاح حي مصر الجديدة مجرد صدفة أو ضربة حظ، بل كانت نتاج رؤية ثاقبة وتخطيط عبقري. في قلب هذه الرؤية، كان يكمن مشروع ثوري في وقته، وهو إنشاء شبكة ترام ومترو لربط ضاحية مصر الجديدة بقلب القاهرة. لقد أدرك مؤسس الحي، البارون إدوارد إمبان، أن بناء مدينة في الصحراء يتطلب أولاً بناء جسر يربطها بالحياة. لم تكن هذه الخطوط مجرد وسيلة مواصلات، بل كانت بمثابة شريان الحياة الذي ضخ السكان والنشاط في جسد المدينة الجديدة، وحولها من مشروع على الورق إلى حقيقة نابضة بالحياة. في هذا المقال، نستعرض كيف كانت شبكة الترام والمترو هي حجر الزاوية في نجاح “هليوبوليس”، وكيف ساهمت في تشكيل مستقبلها.
كانت الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي تأمين وسيلة نقل فعالة وموثوقة. وتشجيعًا للناس على الانتقال والسكن في الضاحية الجديدة، حصل البارون إمبان وشريكه الاستراتيجي، بوغوص نوبار باشا، على امتياز تاريخي مدته 60 عامًا لإنشاء وتشغيل خط للترام، الذي عُرف شعبيًا باسم “المترو”. كان هذا الامتياز بمثابة العمود الفقري للمشروع بأكمله، وتضمن إنشاء خطين رئيسيين:
لاقت فكرة المشروع نجاحًا ماليًا منقطع النظير حتى قبل أن تبدأ. وصفت جريدة “الأهرام” في عددها الصادر يوم 25 أبريل 1905، تحت عنوان “واحة هليوبوليس واستعمارها”، كيف أن الاكتتاب العام لأسهم الشركة حقق نجاحًا باهرًا، حيث تمت تغطية الأسهم المطروحة 90 مرة، وجمعت الشركة رأسمالًا ضخمًا بلغ مليونين ونصف المليون جنيه في ذلك الوقت. وفي 13 يونيو 1905، وقعت الشركة الجديدة برئاسة البارون إمبان عقد الامتياز النهائي مع وزارة الأشغال، لتنطلق رسميًا رحلة بناء شريان الحياة للضاحية الجديدة.
لم يكن نجاح مصر الجديدة معتمدًا على المواصلات فقط، بل على التكامل بينها وبين التخطيط العمراني الفريد الذي أشرف عليه المهندس والمعماري البلجيكي، إرنست جاسبار. اتبع جاسبار في تخطيطه أسلوب “المدن الحدائق” (Garden Cities) الذي كان أحدث صيحات التخطيط العمراني في أوروبا، والذي يهدف إلى الجمع بين مزايا المدينة والريف.
كان نظام المرور الذي صممه جاسبار يتمحور حول نقطة مركزية هي ميدان الكاتدرائية (البازيليك)، وتتفرع منه محاور رئيسية وشوارع فرعية مصممة بعناية فائقة:
كان التصور الأصلي للمشروع يقوم على إنشاء ضاحيتين منفصلتين تفصل بينهما منطقة صحراوية: الأولى تكون ضاحية فاخرة للطبقة البرجوازية تضم الفيلات والشقق الفخمة، والثانية تكون مدينة عمالية متكاملة تضم مساكن للعمال ومنشآت صناعية ومساجد. لكن هذا التصور لم يُنفذ بحذافيره، حيث لم تُقم المدينة العمالية المستقلة إلا بعد فترة طويلة جدًا، وتمثلت في منطقة مساكن ألماظة. بدلًا من ذلك، اكتفى المصممون الأوائل بإنشاء أحياء شعبية ومتوسطة المستوى ضمن النسيج العام للضاحية، مما أدى إلى خلق تنوع اجتماعي فريد داخل الحي الواحد.
كانت المباني في مصر الجديدة تخضع لقواعد تنظيمية صارمة، مثل تحديد الارتفاعات، وترك مساحات خضراء بين كل مبنى وآخر، لضمان الحفاظ على الطابع الجمالي والصحي للمدينة. وقدمت الشركة أربعة نماذج رئيسية من المباني لتلبية احتياجات مختلف الطبقات:
على الرغم من أن هذه المباني قامت على الطراز الغربي، إلا أنها لم تكن نسخة باهتة منه. وهنا يبرز رأي المؤرخ روبرت إلبرت، الذي قال في كتابه عن هليوبوليس: “على الرغم من خليط الأنماط، وعلى الرغم من التشكك في سلامة ذوق بعض المباني، إلا أن هليوبوليس تمثل وحدة أكثر عمقًا من الوحدة الناتجة عن قواعد تنظيم المدن. إن سيادة الزخارف الإسلامية المأخوذة في الغالب من عمارة المساجد تضفي على المدينة سحرًا خاصًا. إننا نجد في هليوبوليس أسلوبًا وإبداعًا حقيقيًا”.
لتشجيع الناس على بناء بيوتهم الخاصة في الضاحية الجديدة، لم تكتفِ الشركة بتوفير البنية التحتية، بل قدمت حلولاً متكاملة ومبتكرة. قامت الشركة ببناء عدة عمارات نموذجية على حسابها الخاص، والتي لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم في مدخل مصر الجديدة بالقرب من ميدان روكسي وفي شارع إبراهيم اللقاني (حيث يقع مقر الشركة التاريخي). تميزت هذه العمارات بنموذج “البواكي” (الأروقة المقوسة) المحمولة على أعمدة من الجرانيت الفاخر المجلوب من أسوان، والتي كانت توفر مساحة من الظل للمشاة في الصيف، وتحميهم من الأمطار في الشتاء، مما أضفى طابعًا عمليًا وجماليًا على الشوارع.
ولم تكتفِ الشركة بذلك، بل عرضت على الناس مساحات من الأراضي بسعر مغرٍ جدًا بلغ 40 قرشًا للمتر، مع تقديم عرض لا يقاوم: تتولى الشركة نفسها بناء المنزل للمشتري طبقًا للرسومات المعتمدة، بهدف الحفاظ على النمط المعماري الموحد للحي، ثم يتم تقسيط قيمة الأرض وتكاليف البناء بالكامل على 15 عامًا بفائدة بسيطة جدًا، وكان مقدم الحجز لا يتجاوز بضعة جنيهات. كانت هذه التسهيلات المالية بمثابة ثورة في سوق العقارات في ذلك الوقت، وجعلت حلم امتلاك فيلا أو منزل في حي راقٍ أمرًا ممكنًا لشريحة واسعة من الطبقة الوسطى.
“لم تبع شركة مصر الجديدة مجرد أراضٍ ومبانٍ، بل باعت حلمًا متكاملاً، ووفرت الأدوات لتحقيقه، من التخطيط الراقي إلى التمويل الميسر، وكان الترام هو العربة التي حملت الناس إلى هذا الحلم.”
يظل نجاح شبكة خطوط ترام ومترو لربط ضاحية مصر الجديدة هو القصة الأبرز في تاريخ الحي. لقد كانت هذه الشبكة أكثر من مجرد وسيلة نقل؛ لقد كانت رمزًا للحداثة، وعامل ثقة، والسبب المباشر في النمو السكاني والاقتصادي للحي. ومن أهم مميزاتها التي ضمنت نجاحها:
في النهاية، يتضح أن قصة إنشاء حي مصر الجديدة هي في جوهرها قصة نجاح مشروع بنية تحتية عملاق. لقد أثبت البارون إمبان للعالم أن التخطيط الحضري الذكي يبدأ من توفير شرايين الحركة التي تربط وتوحد أجزاء المدينة. لقد كانت خطوط الترام والمترو هي القلب النابض الذي جعل “هليوبوليس” تنمو وتزدهر، وحولها من صحراء جرداء إلى مدينة نموذجية لا تزال تُضرب بها الأمثال في التخطيط العمراني الناجح، وتبقى شاهدة على أن الرؤية المستقبلية والاهتمام بالتفاصيل هما أساس بناء المجتمعات المستدامة والناجحة.
لزيارة صفحة الفيس الخاصة بـ (كله في الدليل).
لمتابعة قناتنا على يوتيوب قناة (كله في الدليل).
لعب الترام دورًا حيويًا في تأسيس ضاحية مصر الجديدة، حيث كان وسيلة النقل الأساسية التي ربطت هذه الواحة الصحراوية الجديدة بقلب القاهرة، مما شجع على تعميرها وجذب السكان إليها في أوائل القرن العشرين.
كانت شبكة الترام تربط أهم مناطق مصر الجديدة مثل الكوربة وميدان هليوبوليس بمناطق حيوية في القاهرة مثل ميدان العتبة، مما جعله شريان الحياة الرئيسي للضاحية.
مع التوسع العمراني وزيادة استخدام السيارات، تضاءل دور الترام تدريجيًا وأُلغيت العديد من خطوطه، لكنه لا يزال رمزًا تاريخيًا للحي، وما زالت بعض خطوطه تعمل في نطاق محدود.
أحدث إدخال الخط الثالث لمترو الأنفاق ثورة في المواصلات بالحي، حيث وفر وسيلة نقل حديثة وسريعة وفعالة تربط مصر الجديدة بشبكة مترو القاهرة الكبرى، مما قلل من زمن الرحلات وخفف من الازدحام.
من أبرز المحطات التي تخدم الحي على الخط الثالث للمترو هي محطة “كلية البنات”، “الأهرام”، و”هارون”، والتي أصبحت نقاط انطلاق رئيسية لسكان وزوار مصر الجديدة.