يقف قصر البارون إمبان شامخًا في قلب حي مصر الجديدة، ليس فقط كأيقونة معمارية فريدة، بل كرمز لحقبة تاريخية بأكملها، وشاهد صامت على حلم رجل استثنائي حوّل الصحراء إلى واحة غنّاء. هذا القصر، الذي نسجت حوله الأساطير والحكايات، يظل حتى اليوم محط أنظار العالم ومصدر إلهام، فهو ليس مجرد مبنى، بل هو قطعة فنية جلبت من أقاصي الأرض لتستقر في القاهرة، وتحكي قصة البارون إدوارد إمبان، مؤسس “مدينة الشمس” أو هليوبوليس. في هذا الدليل، سنغوص في أعماق حكاية قصر البارون، منذ أن كان تصميمًا على الورق في باريس، وصولًا إلى مصيره بعد وفاة صاحبه، ودوره في تشكيل هوية أرقى أحياء العاصمة.
محتوي المقالة هي :
تبدأ حكاية قصر البارون من معرض باريس الدولي الذي أقيم في مطلع القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1905. كان المهندس المعماري الفرنسي العبقري، ألكسندر مارسيل، يعرض تصميمًا مبتكرًا لقصر يمزج بين الطراز الأوروبي وفنون العمارة الهندوسية والكمبودية. صدفةً، كان من بين زوار المعرض المليونير ورجل الصناعة البلجيكي، البارون إدوارد إمبان، الذي كان قد وقع في غرام مصر وقرر الاستقرار فيها وتأسيس ضاحية هليوبوليس. بمجرد أن وقعت عيناه على تصميم القصر، انبهر به البارون على الفور وقرر شراء التصميم من مارسيل، ليس كنموذج، بل كقطعة فنية متكاملة ليجعلها مسكنه الخاص ودرة تاج مدينته الجديدة.
لم تكن عملية النقل سهلة، فقد تم تفكيك مكونات القصر وشحنها بحرًا من أوروبا إلى مصر. وفي عام 1907، بدأت أعمال إعادة تركيب وبناء القصر على ربوة عالية اختارها البارون بعناية في مدخل مصر الجديدة، ليطل منها على كامل المدينة التي يحلم بها. استمر العمل في القصر لمدة أربع سنوات، ليتم افتتاحه رسميًا في عام 1911 بحضور السلطان حسين كامل، ويصبح منذ ذلك الحين واحدًا من أغرب وأجمل المباني في العالم.
صُمم قصر البارون ليكون تحفة فنية لا مثيل لها، حيث يجمع بين دقة الهندسة الأوروبية وروحانية وسحر الشرق. الطراز الغالب عليه هو الطراز المستوحى من معابد “أنغكور وات” في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية، وهو ما يتجلى بوضوح في التفاصيل التالية:
لم يكن البارون إمبان وحده في تحقيق حلم هليوبوليس. كان شريكه الأساسي في هذا المشروع الضخم هو رجل الدولة والسياسي الأرميني المصري الشهير، بوغوص نوبار باشا. كان بوغوص نوبار ابن نوبار باشا نوباريان، الذي شغل منصب أول رئيس وزراء في تاريخ مصر الحديث في عهد الخديوي إسماعيل. بفضل خبرته الإدارية الواسعة، حيث شغل منصب مدير السكك الحديدية المصرية، وثروته الكبيرة، شكل بوغوص نوبار مع البارون إمبان ثنائيًا قويًا استطاعا به تحويل الصحراء إلى مدينة عالمية.
وكما بنى البارون قصره الأيقوني، أقام بوغوص نوبار باشا أيضًا قصرًا فخمًا لا يقل روعة، يقع على مقربة من قصر شريكه. لكن على عكس قصر البارون المستوحى من الطراز الهندي، اختار بوغوص نوبار لقصرِه الطراز العربي الإسلامي الأصيل، وزينه بالزخارف والخط الكوفي من الداخل والخارج، ليكون بمثابة تكريم للهوية المعمارية للمنطقة. بعد فترة، أصبح هذا القصر مقرًا لإدارة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة المصرية، ليضيف إلى قيمته التاريخية والمعمارية قيمة وطنية كبيرة.
في 22 يوليو من عام 1929، توفي البارون إدوارد إمبان في بلجيكا بعد صراع مع المرض. وبناءً على وصيته التي تعكس عشقه الشديد لمصر، تم نقل جثمانه ليدفن في أرضها. لم يدفن البارون في قصره، بل في كنيسة البازيليك الرائعة التي بناها أيضًا على مقربة من القصر، وتحديدًا في قبو أسفل الكنيسة. وقد كان لخبر وفاته صدى واسع في مصر، حيث نعته كبرى الصحف المصرية مثل “اللطائف المصورة” التي وصفته بأنه “عظيم من العظماء العصاميين” الذي ترك “خير أثر يضمن لاسمه الخلود في صفحات تاريخ نهضة مصر العمرانية”.
بعد وفاة البارون، انتقلت ملكية القصر إلى ورثته. لكن مع مرور الزمن، بدأت حقبة من الإهمال والتدهور تطال القصر وحديقته الغنّاء. تداولته عدة أيادٍ، ومع تأميم ومصرنة المؤسسات الأجنبية في مصر بعد ثورة 1952، دخل القصر في نزاعات قانونية حول ملكيته. تحولت حديقته الواسعة إلى أرض جرداء، وبدأ القصر نفسه يعاني من آثار الزمن والإهمال، وأُغلقت أبوابه لتتحول الأسطورة المعمارية إلى “قصر الرعب” في خيال الناس، حيث نُسجت حوله الحكايات والقصص الخيالية عن الأشباح والأصوات الغريبة.
“من تحفة معمارية عالمية إلى قصر تسكنه الأشباح في الخيال الشعبي، ثم إلى متحف يروي تاريخ ضاحية بأكملها، تلك هي رحلة قصر البارون إمبان، رمز مصر الجديدة الخالد.”
بعد عقود طويلة من الإهمال والغموض، وفي خطوة تاريخية تهدف إلى الحفاظ على التراث المعماري الفريد لمصر، قامت الحكومة المصرية بشراء قصر البارون في عام 2005. وفي عام 2017، بدأ واحد من أضخم وأدق مشاريع الترميم في تاريخ مصر الحديث، تحت إشراف وزارة السياحة والآثار وبالتعاون مع خبرات هندسية بلجيكية. كان الهدف هو إعادة القصر إلى حالته الأصلية ورونقه الأول، مع احترام كل تفاصيله التاريخية. شمل الترميم الواجهات الخارجية والزخارف والتماثيل، بالإضافة إلى التصميمات الداخلية والأرضيات والأسقف. وبعد ثلاث سنوات من العمل الدؤوب، تم افتتاح قصر البارون إمبان للجمهور في عام 2020، ليتحول من قصر مهجور إلى متحف ومعرض تاريخي يروي حكاية مؤسسه وحكاية حي مصر الجديدة بأكمله، ويعود مرة أخرى ليكون جوهرة تتلألأ في سماء القاهرة.
في النهاية، قصة قصر البارون هي أكثر من مجرد قصة بناء قصر فخم. إنها حكاية طموح ورؤية وشغف، قصة رجل أحب مصر فقرر أن يهديها تحفة فنية لا تمحوها السنين. ورغم كل ما مر به القصر من فترات مجد وإهمال، إلا أنه استطاع أن يبعث من جديد ليقف شاهدًا على عظمة الماضي، ويصبح جسرًا يربط الأجيال الجديدة بتاريخهم وتراثهم الفريد. زيارة قصر البارون اليوم ليست مجرد جولة سياحية، بل هي رحلة عبر الزمن إلى فجر “مدينة الشمس”، وتكريم لروح البارون إمبان التي لا تزال تسكن بين جدران قصره وفي شوارع حي مصر الجديدة.
لزيارة صفحة الفيس الخاصة بـ (كله في الدليل).
لمتابعة قناتنا على يوتيوب قناة (كله في الدليل).
أسس القصر المليونير البلجيكي البارون إدوارد إمبان، وهو مؤسس حي مصر الجديدة. تم الانتهاء من بناء هذه التحفة المعمارية في عام 1911.
يتميز القصر بطرازه المستوحى من العمارة الهندية، وتحديدًا من معابد أوريسا الهندوسية وكمبوديا، مما يجعله قطعة فنية فريدة من نوعها في قلب القاهرة.
يقع القصر في موقع استراتيجي بقلب حي مصر الجديدة، في شارع العروبة الرئيسي، ويطل مباشرة على الطريق المؤدي إلى مطار القاهرة الدولي.
بعد ترميمه، أصبح القصر متحفًا يروي تاريخ حي مصر الجديدة والبارون إمبان. يمكن للزوار استكشاف قاعاته الفاخرة، مشاهدة تماثيله النادرة، والاستمتاع بإطلالة بانورامية من السطح.
نعم، القصر مفتوح للزيارة العامة يوميًا. عادةً ما تكون المواعيد من الساعة 9 صباحًا حتى 4 مساءً، ولكن يُفضل دائمًا التحقق من المواعيد الرسمية وأسعار التذاكر قبل الذهاب.
اكتشف قائمة السناكس الشهية لتجعل رحلتك أكثر متعة - كله في الدليل
22 يوليو، 2024 at 3:03 مساءً[…] مصر الجديدة قصر البارون – مصر الجديدة فلسفة شوارع مصر الجديدة مصر الجديدة .. أوائل […]